كل مبدعٍ فنان فى مجال إبداعه عالمًا كان أم رسامًا، فكلاهما صانعٌ للحضارة؛ فلولا رسامو القبور لما تعرفنا على حياة الأولين، ولولا كتّابهم لما تميزت حضارتهم فى عيون الأحفاد؛ فمن بين سطور الحكماء وأناشيد الكهنة المنقوشة على جدران المعابد وفى متون الأهرام، تعرفنا على حياة الأجداد وفلسفاتهم، تلك التى حملت علماء الفكر والآثار على القول بأن الحضارة المصرية القديمة كانت حضارة اجتماعية فى المقام الأول، وأن بواكير علم الاجتماع كانت مصرية خالصة.
ولعل فى اعتماد "جيمس برستيد" على الأغانى والأناشيد المدونة فى المتون - لتشكيل صورة عن الحياة المصرية القديمة - ما يؤكد أن الفن هو مرآة مجتمعه العاكسة، المحفورة فى ذاكرة الزمن، وأن الحضارة كلٌ لا يتجزأ، فلقد مدت تلك الأغنيات، التى كانت تُنشد فى المعابد والجنائز جسورًا بين الماضى والحاضر؛ بما حفظته لنا من تاريخ الأولين، وما رصدته من مراحل تطورهم الاجتماعى والأخلاقى، وما بينته لنا من عوامل التأثير والتغيير، تلك التى شيدت وتلك التى هدمت.
بل إنها لم تكتف بالرصد المعاصر لها، وإنما دونت لنا تلك الأغنيات التى لم تعاصرها، والتى انتقلت إليها عبر الأجيال المتعاقبة؛ لتؤرخ بها لفترة من الزمن سبقتها بألف عام.
"وهكذا، فعن طريق أغنيات تنتقل من عصر إلى عصر، نقلت الشعوب تاريخها، من قبل أن يخترع الإنسان هذا الفن الدؤوب، فن تجسيد الكلمات بالرسم، ومخاطبة العين بالكتابة"[1].. ولولا تلك الأغنيات لفقدنا جزءًا عظيما من تاريخنا القديم.
وكما لعبت الأغنية دورا مهما فى نقل التاريخ بعد رصده وتدوينه؛ لعبت دورا أعظم وأبلغ أثرًا حين اشتركت فى صناعة التاريخ نفسه؛ بما امتلكت من مقومات للتعبير عن الذات، وعوامل للتأثير والانتشار "فالفن، يمثل الإنسانية بقدر ما يتعامل مع الأفكار السائدة فى وضع تاريخى محدد، ومع مطامح هذا الوضع، ومع حاجاته وآماله" [2]، فدائمًا ما كان الفن وليد عصره ولسان حاله.
ولعل الفن القولى من بين ألوان الفنون، هو القول الأكثر انسجاما مع هذا الرأى. إن النقوش المحفورة على جدران النُصُب والصروح المشيدة لا ترصد غالبا سوى لحظات الانتصار والفخر، وما يتوافق مع رغبات الطبقة الحاكمة، بينما ترصد فنون القول - وعلى رأسها الأغنية - ما يدور فى عقول الفلاسفة والحكماء، وما يجيش فى صدور العامة بكافة طبقاتهم الاجتماعية.
وهو ما جعل للأغنية المصرية تواجدًا حتميًا فاعلاً فى أوقات صناعة التاريخ، فهى التى أدت دورا فكريًا بالغ الأهمية فى مرحلة البحث عن الإله الواحد، وفى زمن الشك فى حقيقة الآخرة والحساب، وهى نفسها التى أدت دورها الوطنى والاجتماعى فى التاريخ المعاصر، منتصف القرن العشرين، فلقد أدرك قادة الثورة ما للفن بصفة عامة، والأغنية بصفة خاصة، من تأثير، كما أدركه أجدادهم القدماء، حين لم يرَ "بسماتيك" سبيلاً إلى توحيد البلاد الممزقة بعد خروج "الأثيوبين" و"الأشوريين" سنة 3 ق.م سوى توحيد الديانة والنهوض بالفن، فدائما كان الفن هو لغة مخاطبة الشعور.
"إن وظيفة الفن الأساسية بالنسبة للطبقات التى تستهدف تغيير العالم لا يمكن أن تكون السحر، بل التنوير والحفز إلى العمل، إلا أن هناك فى الفن بقية من السحر، لا يمكن التخلص منها تماما؛ لأن الفن بغير هذه البقية من طبيعته الأصلية لا يكون فنًا على الإطلاق؛ فالفن فى أي صورة من صوره، جادًا كان أم هازلاً، راميًا إلى الإقناع أو ممعنًا فى الخيال، لابد أن يكون متصلاً بالسحر اتصالاً ما .. إن الفن لازم للإنسان حتى يفهم العالم ويغيره، وهو لازم أيضا بسبب هـذا السحر الكامن فيه "[3].. ولعل هـذا ما يكسبه ذلك التأثير الأخَّاذ، ولا غرابة فى استخدام "فيشر" لكلمة السحر للتعبير عن مدى قوة تأثير الفن فى النفس البشرية، فلقد كان الاعتقاد فى الماضى أن الشعراء الغنائيين يأتون بأقوالهم عن طريق الإلهام، وهو ما يستدل عليه من قول أفلاطون فى محاورة "أيون": إن شعراء الملاحم، المجيدين منهم، لا يستمدون إجادتهم من الفن، بل من الإلهام، من الوحى الـذى يهبط عليهم، ومن ثم ينطقون بكل هذا الشعر الرائع، وكـذلك الأمر مع المجيدين من الشعراء الغنائيين.
وكما كان كهنة الإلهة "كوبيلا" لا يرقصون إلا إذا فقدوا صوابهم، فكذلك الشعراء الغنائيون لا ينظمون أشعارهم الجميلة وهم منتبهون.
وللموضوع بقية