المجاز العقلى

ديسمبر 31, 2020


يلعب الإيجاز دورا بلاغيا عظيما فى اللغة؛ بما يتيحه من مبالغة وسعة فى اللفظ، والاستعاضة بقليل اللفظ عن كثيره مع الإبانة والإفصاح.. والمجاز كـ (اسم) مُشتقٌّ من جازَ الشيء أى تَعَدَّاه، وقد سَمَّوا به اللّفظَ الذى نُقِل من معناه الأصلي، واستُعمِل ليدُل على معنى غيره، مناسب له. وهو من الوسائل البيانيَّةِ التى تستخدم فى توضيح المعنى، إذْ به يخرج المعنى متَّصفاً بصفة حسّية، لهذا أكثر العرب من استعمال المجاز لميلِهم إلى الاتساع في الكلام، وإلى الدلالة على كثرة معاني الألفاظ، ولما فيه من الدِّقة في التعبير، وما يحدثه فى النفس من سرور وراحة، لهذا كثر في كلامهم، وزيّنوا به خُطبهم وأشعارهم .

والمجازَ على قسمينِ: الأول: لغويُّ، وهو استعمالُ اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة، بمعنى مناسبة بين المعنى الحقيقيِّ والمعنى المجازيِّ ـ يكون الاستعمال لقرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقيِّ، وهي قد تكون لفظيّةً، وقد تكون معنوية.

والثانى: عقليٌّ، وهو يجري في الإسناد، بمعنى أن يكون الإسناد إلى غير من هو له، نحو: (شفَى الطبيبُ المريضَ)، فإنَّ الشفاءَ من الله تعالى، فإسنادهُ إلى الطبيبِ مجازٌ، ويتمُّ ذلك بوجودِ علاقة مع قرينة مانعة من جريانِ الإسنادِ إلى من هوَ لهُ. فهذا المجازُ يسمَّى المجازَ العقلي .

المجاز العقلى: هو إسنادُ الفعل، أو ما في معناه من اسم فاعل، أو اسم مفعول أو مصدر إلى غير ما هو له في الظاهر، ويحتاج إلى قرينة تمنع من أن يكون الإسناد إلى ما هو له، ويأتى على قسمين الأول، المجاز في الإسناد، والثانى، المجاز في النسبة غير الإسنادية، ومن صفاته الإيجاز وسعة اللفظ، إيرادُ المعنى في صورة دقيقة مقربة إلى الذهن .

وسوف نتناول فى هذا الموضوع المجاز العقلى من حيف المفهوم، كما سوف نتناول أقسامه من حيث العلاقة بين الفاعل المجازى والفاعل الحقيقى، ومن حيث العلاقة بين الفعل وما فى معناه والمسند إليه المجازى، وما يشتمل عليه كل منهما، فيما يعرف بعلاقات المجاز العقلى، كذلك سنحاول تعريف القرينة باعتبارها أحد أركانه الأساسية، ومن ثم نعرض لأهمية هذا النوع من المجازات ودوره البلاغى فى اللغة؛ إذ يعد هذا النوع من أهم وأروع المجازات بما له من سعة اللفظ، ووضوح ودقة المعنى، والمبالغة البديعة، إضافة إلى الإيجاز.

المجاز قسيم الحقيقة أو مقابلها، يقصد به فى اللغة التجاوز والتعدى، ويقصد به في الإصطلاح اللغوي صرف اللفظ عن معناه الظاهر، الحرفي، إلى معنى له علاقة غير مباشرة بالمعنى الحرفي. وهو من الوسائل البلاغية التي يكثر استخدامها في كلام الناس، بغض النظر عما بينهم من تفاوتات بلاغية و لغوية، كما أنه ليس من الكذب؛ وإنما يصنف فى علم المعانى من أحوال الإسناد الخبرى، "ويذكره بعض الباحثين في علم البيان من حيث إنه ضرب من المجاز". [1]

وفى ذلك يقول القزوينى "الإسناد منه حقيقة عقلية، ومنه مجاز عقلي. فأما الحقيقة فهي إسناد الفعل، أو معناه، إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر"[2] وأما المجاز العقلى فهو إسناد الفعل، أو معناه، إلى ملابس له، غير ما هو له، بتأوّل.[3] والتأوّل هنا شرط، لأن التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره، وبدون القرينة يبقى الإسناد على ظاهره ويظل من قبيل الحقيقة .. الفرق إذا بين الحقيقة العقلية والمجاز العقلى يكمن في إسناد الفعل، أو معناه، فإن أسند إلى ما هو له؛ صار حقيقية عقلية، وإن أسند إلى مُلابِسٍ له، أى إلى غير ما هو له؛ صار مجازا عقليًا..

إذن فالإسناد لا يجرى على وتيرة واحدة فى كل كلام، وإنما تتعدد طرقه، فمنه ما هو حقيقة ومنه ما هو مجاز، لأن المتكلمين لا يلتزمون إسناد الأحداث والأفعال إلى ما هى له دائما؛ وإنما يتوسعون ويتجوزون فيه، انطلاقا مع الخيال، واستجابة للحس وتأنُّفًا فى أداء المعانى. وعلى هذا يكون الإسناد أمرا عقليا، يحصل بقصد المتكلم، كما أنه راجعٌ إلى تصرف عقله وإرادته هو، دون دخل للغة فى ذلك، وعلى هذا جاء القول: حقيقة عقلية، ومجاز عقلى، فاللغة هنا لم تحدد فاعلا معينا للفعل بحيث إذا أسند إليه كان الإسناد حقيقة، وإذا أسند إلى غيره كان مجازا، الحقيقة والمجاز إذا عقليان لا لغويان. و فى هذا الموضوع نتناول المجاز العقلى من حيث:

أولاً: تعريف المجاز العقلي، وعلاقاته.

ثانيا: قرينة المجاز العقلي، بلاغة المجاز العقلي.


أولاً: أ- تعريف الخطيب القزويني للمجاز العقلي

أشرنا فى التمهيد السابق إلى ما ذكره القزوينى فى التفريق بين الحقيقة والمجاز، فى قوله : "الإسناد منه حقيقة عقلية، ومنه مجاز عقلي. أما الحقيقة فهي إسناد الفعل، أو معناه، إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر" وقد بيَّن المراد بمعنى الفعل أنه المصدر، واسم الفاعل، وما شابه مما يأتى بيانه لاحقا.

كما رد قوله: «في الظاهر» إلى كونه يشمل ما لا يطابق اعتقاده مما يطابق الواقع، وما لا يطابقه، وأنها أربعة أضرب، أولها، ما يطابق الواقع واعتقاده، والثاني، ما يطابق الواقع دون اعتقاده، والثالث، ما يطابق اعتقاده دون الواقع، أما الرابع، فما لا يطابق شيئا منهما، كالأقوال الكاذبة التي يكون القائم عالما بحالها دون المخاطب.

وأما المجاز عنده؛ فهو إسناد الفعل، أو معناه، إلى ملابس له، غير ما هو له، بتأوّل. [4] كما بين أن للفعل ملابسات شتى، إذ أنه يلابس الفاعل، والمفعول به، والمصدر، والزمان، والمكان، والسبب.

ثم فصل القزوينى القول فذكر أن إسناده الفعل إلى الفاعل ـ إذا كان مبنيا له ـ حقيقة، وكذلك الحال عند إسناد الفعل إلى المفعول إذا كان مبنيا له، وأنهما يندرجان تحت قوله: «ما هو له» . [5] ثم بيَّن أن إسناده إلى غيرهما ـ لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل ـ إنما يكون مجازا.

ويتوافق تعريف الهاشمى فى كتابه "جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع" مع تعريف الخطيب القزوينى، فقد جاء فى تعريفه للمجاز العقلى: "هو إسنادُ الفعلِ، أو ما في معناهُ من اسمِ فاعلٍ، أو اسمِ مفعولٍ أو مصدرٍ إلى غير ما هو له في الظاهرِ، من حال المتكلِّمِ، لعلاقةٍ مع قرينةٍ تمنعُ من أن يكونَ الإسنادُ إلى ما هوَ لهُ." [6]

وبناء على ما سبق فإن المجاز العقلى يترتب على إسناد الفعل أو معناه(اسم الفاعل – اسم المفعول – المصدر) إلى غير ما هو له فى الظاهر، ولا يكون المجاز العقلي إلّا في إسناد، أي: في ما كان فيه المعنى قائما على مسند ومسند إليه. [7] وأنه لابد له من علاقة (ملابسة) وقرينة صارفة عن إرادة الإسناد الحقيقى، شأنه فى ذلك شأن غيره من المجازات. كون العلاقة هى التى تصحح الإسناد، فلا يصح ارتباط الفعل بفاعل لا تربطه به صلة، ولا تجمعه به علاقة، كما أن القرينة هى التى تدل على ما يقصده المتكلم، وبالتالى فإن الكلام بدونها يصبح ألغازا غير مفهومة، ليس فيها ما يفصح عن مراد المتكلم بها حقيقة كانت أو مجاز.

ب: علاقات المجاز العقلي

كما تبينَّا من تعريف المجاز العقلى، أنه لابد له من علاقة ملابسة تصحح التجوُّز.. ويمكن النظر إلى هذه العلاقة من ناحيتين: الأولى، العلاقة بين الفاعل المجازى والفاعل الحقيقى. والثانية، العلاقة بين الفعل وما فى معناه والمسند إليه المجازى.

1- من حيث العلاقة بين الفاعل المجازى والفاعل الحقيقى:

ومثل تلك العلاقة في قوله تعالى" فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين" [8] فالقصد: ما ربح التُجَّار–المشترين - فى تجارتهم، وتقع الملابسة فى المثال بين الفاعل المجازى (التجارة) والفاعل الحقيقى (التجار/ المشترين)، وهذه الملابسة فى تعلق الفعل بكل منهما. والمثال ساقه الزمخشرى فى سياق تعريفه للمجاز العقلى الذى عرَّفه بقوله: " أن يستند الفعل إلى شيء يلتبس بالذى هو فى الحقيقة له" [9]

2- العلاقة بين الفعل وما في معناه والفاعل المجازى:

يستند القائلون بهذا الرأى - على أغلب الظن - بما سبق وذكرناه في المطلب السابق من قول الخطيب القزوينى "إن للفعل ملابسات شتى، إذ أنه يلابس الفاعل، والمفعول به، والمصدر، والزمان، والمكان، والسبب" ، وهو الكلام الذى نقله الزمخشرى عن الخطيب القزوينى ، غير أن القزوينى قد أوضح كما سبق وأشرنا أيضا " أن إسناد الفعل إلى الفاعل ـ إذا كان مبنيا له ـ حقيقة، وكذلك الحال عند إسناد الفعل إلى المفعول إذا كان مبنيا له، وأنهما يندرجان تحت قوله: «ما هو له» . أما إسناده إلى غيرهما ـ لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل ـ إنما يكون مجازا. و كما أن العلاقة بين الفاعل الحقيقى والفاعل المجازى قائمة على الملابسة الموجودة بينهما، فإن وجود علاقة بين الفعل وفاعله المجازى تستلزم وجود علاقة بين الفاعل الحقيقى والفاعل المجازى ..

وعليه يمكن النظر إلى علاقة الملابسة من الناحيتين السابقتين، غير أن العلاقة بين الفاعل الحقيقى والمجازى واحدة غير متعددة، أما العلاقة بين الفعل والمسند إليه المجازى فمتعددة، فالفعل يتعلق بالفاعل لصدوره منه، ويتعلق بالمفعول لوقوعه عليه، وبالمصدر لكونه جزء من مفهومه، وبالزمان لوقوعه فيه ، وكذلك بالمكان، ويتعلق بالسبب لوقوعه به أو لأجله. وعليه فإن المجازُ العقليُّ على قسمين:

القسم الأول:- المجازُ في الإسنادِ، وهو إسنادُ الفعلِ أو ما في معنى الفعلِ إلى غير من هوَ لهُ، وهو على أقسام كما سنبين أدناه .

القسم الثانى - المجازُ في النسبةِ غيرِ الإسناديةِ.

1- القسم الأول:علاقات المجاز العقلى بحسب ما أسند إليه الفعل أو معناه مجازا هى:

المفعولية: وتكون في تركيب يقوم على إسناد الفعل أو ما في معناه الى المفعول به في الأصل. ويسند فيها الفعل الى صيغة اسم الفاعل والمراد اسم المفعول نحو: مكان آمن، طريق سالك، غرفة مضيئة. والمقصود: مكان مأمون، وطريق مسلوك، وغرفة مضاءة. فاستعملت صيغة اسم الفاعل (آمن، سالك، مضيئة) بينما المراد معنى المفعولية (مأمون، مسلوك، مضاءة) ففي العبارات الثلاث مجاز عقلي أسند فيه المبني للفاعل الى المفعول، والقرينة معنوية ، فالعلاقة مفعولية. [10].

الفاعلية: يكون بإسناد ما بني للمفعول (اسم المفعول) الى الفاعل، ويسند فيها الفعل الى صيغة اسم المفعول، والمراد اسم الفاعل نحو : ليل مستور، وسيل مفعم؛ بينما المراد ليل ساتر وسيل مفعم.. فاستعملت صيغة اسم المفعول (مستور، مفعم) بينما المراد معنى الفاعلية (ساتر، مفعم) ففي العبارتين مجاز عقلي أسند فيه المبني للمفعول الى الفاعل والقرينة معنوية والعلاقة فاعلية. ومنه قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)[11] أي كان وعده آتيا. [12]

المصدرية: تكون في التراكيب التي يسند فيها الفعل أو ما في معناه الى المصدر من لفظه : وفيها يسند الفعل الى مصدره بدلا من الفاعل الحقيقي ، نحو: دارت دورة الدهر. الله جلّ جلاله ، جن جنون الرجل، ونحن نريد: دار الدهر، وجلّ الله ، وجنّ الرجل. ولكن أسندت الأفعال الى مصادرها (دورة ، جلال، جنون) وكل منها مسند إليه بدلا من إسنادها الى الفاعل الحقيقي (الدهر، الله، الرجل) ففي كل من الجمل الثلاث مجاز عقلي أسند فيه الفعل إلى مصدره فالعلاقة مصدرية. [13]

ومثاله أيضا - قول أبي فراس الحمداني: سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. فقد أسند الجد إلى الجد، أي الاجتهاد، وهو ليس بفاعل له، بل فاعله الجاد - فأصله جد الجاد جدا، أي اجتهد اجتهاداً، فحذف الفاعل الأصلي وهو الجاد، واسندَ الفعل إلى الجد. [14]

المكانية: ويكون المسند إليه مكانا يجري فيه المسند (الفعل أو ما في معناه). ويسند فيها الفعل إلى المكان الذي وقع فيه، كقولنا : حديقة غنّاء، ومكان مزدحم، ضجّت القاعة وجرى النهر؛ بينما المراد ، حديقة طيورها غناء، ومكانا مزدحم الناس، وضج القوم في القاعة.

فأسندت الأفعال أو ما في معناها (غناء، مزدحم، ضجّت، جرى) إلى المكان الذي وقعت فيه (حديقة، مكان، قاعة، مجرى) وليس إلى الفاعل الحقيقي لكل منها (الطيور، الناس، القوم، النهر) ففي كل من الجمل الأربع مجاز عقلي أسند فيه الفعل أو ما في معناه إلى مكانه بدلا من إسناده الى الفاعل الحقيقي، والعلاقة مكانية. [15] ومثاله أيضا: وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم) فقد أسند الجرى إلى الأنهار، وهي أمكنة للمياه، وليست جارية بل الجاري ماؤها. [16]

الزمانية: وتكون بإسناد الفعل إلى زمانه الذى وقع فيه، ومثاله : (من سره زمن ساءته أزمان) فقد أسند الإساءة والسرور إلى الزمن، وهو لم يفعلهما، بل كانا واقعين فيه على سبيل المجاز. [17]

ومثل: صام نهاره وقام ليله، فلا النهار يصوم ولا الليل يقوم، وإنما أسند صيام الصائم إلى النهار الذى صام فيه، وقيام القائم إلى الليل الذى قام فيه.

السّببية: ويسند فيها الفعل الى السبب الذي أدّى اليه مثل: نبت الغيث، فتح القائد المدينة، بنت الحكومة جامعة. والمعروف أن الذي نبت هو العشب والغيث هو سبب نباته. وان الذي فتح المدينة هم الجنود والقائد هو السبب وأن البنائين هم الذين بنوا الجامعة والحكومة هي السبب في البناء.

ولقد أسندت الأفعال في الجمل الثلاث إلى أسبابها بدلا من إسنادها إلى الفاعلين الحقيقيين (العشب ، الجنود ، البنائين). [18]

2- القسم الثانى: المجازُ في النسبةِ غيرِ الإسناديةِ ،وأشهرُها النسبةُ الإضافيّةُ نحو:

أ - (جَرْيُ الأنهارِ) فإنَّ نسبةَ الجريِ إلى النهرِ مجازٌ باعتبار الإضافةِ إلى المكانِ.

ب - (صومُ النهارِ) فإنَّ نسبةَ الصومِ إلى النهارِ مجازٌ باعتبارِ الإضافة إلى الزمانِ.

ج -(غُرابُ البَينِ) فإنّهُ مجازٌ باعتبار الإضافة إلى السببِ.

د - (اجتهادُ الجِدّ) مجازٌ باعتبار الإضافةِ إلى المصدرِ. [19]

** هذا ونشير إلى أن أصحاب علم البيان قد قسموا المجاز العقلى من حيث العلاقة بين طرفيه إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: أن يكون الطرفان حقيقتين، مثل: "سال الوادي".

فالمسند وهو فعل "سال" مستعمل فيما وضع له لغة وهو السيلان، ولا مجاز فيه. والمسند إليه وهو "الوادي" مستعمل أيضا فيما وضع له لغة ولا مجاز فيه.. لكن المجاز وقع في الإسناد وهو نسبة السيلان إلى الوادي، وهذا من المجاز العقلي.

القسم الثاني: أن يكون الطرفان مجازيين، مثل: قوله عز وجل في سورة (البقرة): {فما ربحت تجارتهم}.

نفي الربح: مجاز عن عدم تحصيلهم نفعا من أخذ الضلالة وترك الهدى، و تجارتهم: مجاز عن عملية أخذ الضلالة وترك الهدى. وإسناد نفي الربح عن تجارتهم مجاز عقلي، إذ المنافقون هم الذين لم يربحوا.

القسم الثالث: أن يكون المسند حقيقة والمسند إليه مجازا، مثل: "أنبت البقل شباب الزمان"، الإنبات: حقيقة. وشباب الزمان مجاز، والإسناد مجاز عقلي، والملابسة السببية.

القسم الرابع: أن يكون المسند مجازا والمسند إليه حقيقة كقول المتنبي: وتحيي له المال الصوارم والقنا * ويقتل ما تحيي التبسم والجدا، الإحياء مجاز عن الإنماء، الصوارم والقنا حقيقة، وإسناد الإحياء إلى الصوارم والقنا مجاز عقلي، والملابسة السببية.

ثانيا - أ: قرينة المجاز العقلى 

فى تعريفه للمجاز العقلى يقول صاحب جواهر البلاغة "المجاز العقلي: هو إسنادُ الفعل، أو ما في معناه (من اسم فاعل، أو اسم مفعول أو مصدر) إلى غير ما هو له في الظاهر، من حال المتكلم، لعلاقة مع قرينة تمنع من أن يكون الإسناد إلى ما هو له." [20] والقرينة هى العلامة الصارفة عن إرادة الظاهر من الإسناد، وهى ما قصدها القزوينى فى لفظة (التأوُّل)؛ ذلك لأن التأويل معناه: صرْف الشيء عن ظاهره إلى غيره، ومعرفة ما يؤول إليه المعنى. والمجاز العقلى يحتاج إلى هذه القرينة (العلامة الدالة) التى تصرفه عن الإسناد الحقيقى، فبدونها يصبح الكلام ألغازا وتعمية غير واضحة المراد، حيث أن عمل القرائن في رفعّ اللبس والإبهام يدور على ما استعمل بخلاف الأصل, فإن غابت تلك القرائن أو خفيت وقع التعقيد اللفظي في أصل النَّظم, والتعقيد المعنوي في مقتضياته كالمجاز والكناية, وتلك القرائن هى التى تحقق الحد الأدنى من البيان وهو وضوح المعنى وانجلاؤه. فمن أجل ذلك كانت شرطا في تحقق المجاز والكناية [21] والقرينة نوعان: إما لفظية، وإما معنوية.

1- القرينة اللفظية: بأن يكون فى الكلام لفظ يصرفه عن ظاهره [22] أى أن يكون هناك لفظ مذكور في سياق الإسناد المجازي، يُوضح لنا أن الإسناد ليس على حقيقته.

ومثل هذه القرينة اللفظية جاء في قول الصلتان العبدي قُثَم بن خبيَّة :أَشَابَ الصغيرَ وأَفَنى الكبيرَ كَرُّ الغداة ومَرُّ العشيّ. والغداة: هي أوّل النهار، وكرّها بمعنى: رجوع الغداة بعد ذهابها، والعشي هو: أول الليل، فأسند فعْل الإشابة إلى رجوع الغداة، وإلى مرور أوائل الليل. لكن إذا نظرنا إلى الظاهر، نقول هذا إسناد حقيقيّ نظراً لأنه فيما يبدو لنا في الظاهر: أنّ الشاعر يؤمن بأن الذي أحدث الشيب في رأس الصغير وأمات الكبير هو: "كرّ الغداة ومرّ العشيّ".

لكننا عندما نتابع هذه القصيدة التي فيها هذا البيت، نجد فيها ما يدلّ على أنه لم يُرِد بإسناد الإشابة والإفناء إلى كرّ الغداة ومرّ العشي، الظاهر بدليل أنه قال: فمِلّتنا أننا مسلمون على دين صِدِّيقِنا والنبي. وهذا دليل على أنه موحد تلزمه عقيدته الإيمان بأن الفعل لله وحده، وهذا دليل لفظي، أو قرينة لفظية، على أن الإسناد في "أشاب" و"أفنى" إنما هو إسناد مجازي.

2- القرينة المعنوية: وقد عبروا عنها أحياناً بالقرينة الحالية، وهذا النوع من القرينة الغير لفظية، أو الحالية، أو المعنوية، وذلك بأن يكون مع الإسناد أمر معنوي يصرفه عن ظاهره، وتأتي تحتها ثلاث صوَر، منها:

الصورة الأولى: هى استحالة قيام المسند بالمسند إليه عقلا؛ أو استحالة صدور المسنَد من المسنَد إليه، المذكور في الكلام أو قيامه به، لأن الفاعل هو مَنْ أحدث الفعل وصدر عنه الفعل، أو من اتصف بالفعل. فإذا كان هذا الفعل وما في معنى الفعل يستحيل صدوره من جهة العقل بهذا الفاعل، فإن هذه قرينة حالية أو غير لفظية أو قرينة معنوية، ومن ذلك قولهم: "محبتك جاءت بي إليك" و "سرّتني رؤيتك"، لأنه من الواضح استحالة اتصاف المحبة بالمجيء واتصاف الرؤية بالسرور. هذه استحالة عقلية، العقل لا يتصوّر ذلك وبالتالي فهذه قرينة حالية، وهي الاستحالة العقلية.

الصورة الثانية: أن تكون استحالة صدور المسند من المسند إليه المذكور في الكلام، أو قيامه به إنما هي استحالة العادة والعرف بين الناس، نحو: "هزم القائد جيش الأعداء". "وكسا الأمير الكعبة"، والعادة أن هذه الأفعال لا تصدر عن القائد، أو الأمير، وإنما القائد أو الأمير هو من أصدر الأمر، بينما ينفذ آخرون. الاستحالة هنا إذن راجعة للعادة والعرف.

الصورة الثالثة: صدور الكلام من الموحِّد، أى أن يصدر الكلام عن مسلم موحِّد ، كما في قول مَن تعرف حاله على هذا النحو: "شفى الطبيب المريض" وأمثالَه. فلو أنك سمعت هذا وعلمت أن صاحبه مسلم لأدركت أنه لا يعتقد بأن الطبيب هو الفاعل الحقيقي وإنما هو سبب من الأسباب، عند ذلك تكون عقيدة التوحيد هنا قرينة على المجاز.

ولو افترضنا فى المثال السابق أن صاحب الكلام كان من الدهريين أو الوجوديين لتبدلت النتيجة وأصبح الكلام من قبيل الحقيقة العقلية حيث لا قرينة تصرفه عن ظاهرة .

ثانيًا - ب: بلاغة المجاز العقلى 

يقول "الشيخ عبد القاهر الجرجاني" متحدثا عن بلاغة المجاز العقلي:

"هذا الضرب من المجاز على حدته كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المفلق، والكاتب البليغ، في الإبداع، والإحسان، والاتساع في طرق البيان، وأن يجئ بالكلام مطبوعا مصنوعا، وأن يضعه بعيد المرام قريبا من الأفهام . [23]

ولا يغرنك من أمره أنك ترى الرجل يقول: أتى بي الشوق إلى لقائك، وسار بي الحنين إلى رؤيتك، وأقدمني بلدك حق لي على إنسان، وأشباه ذلك، مما تجده لشهرته يجري مجرى الحقيقة، فليس هو كذلك، بل يدق ويلطف، حتى يأتيك بالبدعة التي لم تعرفها، والنادرة تأنق لها". [24]

ويقول عبد الرحمن الميدانى [25]

كل من يقرأ أو يسمع كلاما بليغا مؤثرا إذا رجع إلى تحليل عناصر التأثير فيه، القائمة على الإبداع الرفيع يلاحظ أن من أكثر هذه العناصر تأثيرا في نفسه، ما اشتمل الكلام عليه من مجاز بديع، وتكثر فيه الفقرات التي تنتمي إلى قسم المجاز العقلي. ولا يحسن الإبداع المؤثر من هذا المجاز إلا أذكياء البلغاء.

وتكمن روعة المجاز العقلى فى أن المتكلم بهذا الأسلوب يعدل عن الإسناد الحقيقى، وينسب الفعل إلى غير ما هو له، فيخيل إلى السامع أن الفعل وقع من غير فاعله أو على غير مفعوله.

وفى هذا التخيل متعة نفسية لا يفطن إليها ولا يدرك سحرها إلا صاحب الذوق البيانى الرفيع حيث يعينه الذوق على إدراك الفروق بين الأساليب المختلفة حقيقة ومجازا. كما أنه يؤدى إلى المبالغة فى إثبات الفعل لفاعله بطريق مؤكد، إضافة إلى الإيجاز الذى هو فن من فنون البلاغة.

الإيجاز العقلى إذن يوسّع على المتكلم فى طرق البيان ويوجز فى تأدية المعنى، ويمنح ما يهيأ من خيال المتعة للسامع المتذوق البليغ ، وتطبع مبالغاته أثرا بلاغيا رائعا فى أسلوب المتكلم .

خلاصة القول أن للمجاز فى اللغة شأن ومنزلة فهو طريق من طرق التوسع فيها، وواحد من فنونها البلاغية، والمجاز العقلى أحد هذه المجازات. وهو من حيث المفهوم " إسناد الفعل أو ما في معناه إلي غير ما هو له؛ لعلاقة بينهما مع وجود قرينة مانعة من الإسناد الحقيقي" وسمّي مجازا عقليا " لأن كلا من ركني الإسناد قد يكون مستعملا في معناه اللغوي بحسب وضعه، إنما حصل التجوز في الإسناد وفي النسبة فقط، وقد يكون مستعملا في معنى مجازي على طريقة المجاز اللغوي، وأضيف إلى ذلك مجاز عقلي حاصل في الإسناد، أي: في نسبة المسند إلى المسند إليه، سواء أكانت الجملة فعلية أو اسمية، وهو على قسمين:

الأول: المجاز في الإسناد، وهو إسناد الفعل أو ما في معنى الفعل إلى غير من هو له، وهو على أقسام، أشهرها:

1 ـ الإسناد إلى الزمان، كقول: (من سرّه زمن ساءته أزمان) فإن إسناد المسرّة والاساءة إلى الزمان مجاز، إذ المسيء هو بعض الطوارئ العارضة فيه، لا الزمان نفسه.

2 ـ الإسناد إلى المكان، نحو قوله تعالى: (وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم) فإنّ إسناد الجري إلى الأنهار مجاز، باعتبار مائها.

3 ـ الإسناد إلى السبب، كقول: (بنى الأمير المدينة) فإنّ الأمير فقط أمر بناء المدينة لا من بناها بنفسه.

4 ـ الإسناد إلى المصدر، كقول: (سيذكرني قومي إذا جَدَّ جِدّهم) فإنّ الفعل (جَدَّ) أُسند إلى المصدر: (جِدّهم) مجازاً، لأنّ الفاعل الأصلي هو الجادّ.

الثاني: المجاز في النسبة غير الإسنادية، وأشهرها النسبة الإضافيّة نحو:

1 ـ (جَرْيُ الأنهار) فإنّ نسبة الجري إلى النهر مجاز باعتبار الإضافة إلى المكان.

2 ـ (صومُ النهار) فإنّ نسبة الصوم إلى النهار مجاز باعتبار الإضافة إلى الزمان.

3 ـ (غُرابُ البَين) فإنّه مجاز باعتبار الإضافة إلى السبب.

4 ـ (اجتهاد الجِدّ) مجاز باعتبار الإضافة إلى المصدر.

وتظهر بلاغة المجاز العقلي في :

- الإيجاز فى تأدية المعنى المقصود ، والاتساع فى طرق البيان .

- تحضير العلاقة بين المعنين الأصلي والمجازي، وعدم خلو المجاز من مبالغة بديعية ذات أثر .

- تكمن روعة المجاز العقلى فى أن المتكلم بهذا الأسلوب يعدل عن الإسناد الحقيقى، وينسب الفعل إلى غير ما هو له، فيخيل إلى السامع أن الفعل وقع من غير فاعله أو على غير مفعوله .


المراجع

- الإيضاح فى علوم البلاغة - للخطيب القزوينى - دار الكتب العلمية - بيروت – لبنان

- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد الهاشمى - المبحث الثالث في تعريف المجاز العقلي وعلاقاته - المكتبة الشاملة الحديثة

- علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني ) - د/ محمّد أحمد قاسم ، د/ محيي الدين ديب - مؤسسة الحديثة للكتاب - ط1

- الخلاصة فى علوم البلاغة ، علي بن نايف الشحود

- القرائن فى علم المعانى ، ضياء القالش ، رسالة دكتوراه ، جامعة دمشق 2010-2011

- دلائل الإعجاز/ لعبد القاهر الجرجانى - تحقيق وشرح محمد عبد المنعم خفاجى -مكتبة القاهرة 1980

- البلاغة العربية، أسسها وعلومها وفنونها - عبد الرحمن الميدانى- الدار الشامية بيروت - ط 1996 - الجزء الثانى

- كتاب خصائص التراكيب ، محمد أبو موسى

- الكشاف للزمخشرى – نسخة المكتبة الشاملة – الجزء الأول



الهوامش:

[1] - كتاب خصائص التراكيب ، محمد أبو موسى – التجوز فى الإسناد ص 101

[2] - الإيضاح فى علوم البلاغة - للخطيب القزوينى - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان - ص 31

[3] - المرجع السابق ص 32

[4] - الإيضاح فى علوم البلاغة - للخطيب القزوينى - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان – ص 32

[5] - المرجع السابق – ص 32

[6] - جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد الهاشمى - المبحث الثالث في تعريف المجاز العقلي وعلاقاته - المكتبة الشاملة الحديثة

[7] - علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني ) - د/ محمّد أحمد قاسم، د/ محيي الدين ديب - مؤسسة الحديثة للكتاب - ط1، ص 233

[8] - الآية 16 من سورة البقرة .

[9] - الكشاف للزمخشرى - 1/192، كتاب مقرر علم المعانى (1) ص 124

[10] - علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )، مرجع سابق ص 238

[11] - سورة مريم ، الآية 61

[12] - علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )، مرجع سابق ص 237

[13] - المرجع السابق ص 236

[14] - جواهر البلاغة فى المعانى ، مرجع سابق ، ص ٢٥٥

[15] - علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )، مرجع سابق ص235

[16] - جواهر البلاغة فى المعانى ، مرجع سابق ، ص ٢٥٥

[17] - جواهر البلاغة ، مرجع سابق ، ص 255

[18] - علوم البلاغة ، مرجع سابق ، ص 239

[19] الخلاصة فى علوم البلاغة ، علي بن نايف الشحود ، ص 42

[20] - جواهر البلاغة ، مرجع سابق ، ص 255

[21] - القرائن فى علم المعانى ، ضياء القالش ، رسالة دكتوراه ، جامعة دمشق 2010-2011

[22] - القرائن فى علم المعانى – رسالة دكتوراه – جامعة دمشق ص 173

[23] - دلائل الاعجاز / لعبد القاهر الجرجانى - تحقيق وشرح محمد عبد المنعم خفاجى -مكتبة القاهرة 1980

[24] - البلاغة العربية - أسسها وعلومها وفنونها ، عبد الرحمن الميدانى - جـ2، ص 304

[25] - صاحب كتاب البلاغة العربية ، اسسها وعلومها وفنونها - الدار الشامية بيروت - ط 1996 - الجزء الثانى





مواضيع ذات صلة

Previous
Next Post »