Loading...
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فلسفة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فلسفة. إظهار كافة الرسائل

الأخلاق عند أرسطو

ديسمبر 21, 2020


قد لا يختلف منا اثنان على أن الهدف الذي نريده جميعا هو السعادة، ولكننا سوف نختلف كثيرا فى تعريفها، وفى طبيعة الهدف الذى قد نراه سبيلا لها، والوسيلة التى يبتغيها كلٌ منا فى سبيل تحقيقها، والأهم من ذلك كله، الأطر الضابطة لما سوف نفعله من أجل الوصول إلى تلك السعادة.

هنا تأخذ أخلاق المرء دور البطولة وتصبح هى الحاكم الضابط، وربما لا تكون. فالمسافة على مقياس الضابط الخلقى أكبر من أن يكون لها بداية ونهاية؛ فبين هدف السعادة فى الحياة الدنيا، والسعادة فى الحياة الآخرة، أو كلاهما -إن كان هذا ممكنا - بين هذا وذاك، سوف يُمتحن المرء كثيرا فى معايير إنسانيته، فى إرادته، وصلابته، فى حرصه على آخرته، أو عدميته.

فالظلم لم يجد وازعا أخلاقيا يمنعه، ولا مبدأ حاكما يصده، ولا قناعةً ببعثٍ أو حسابٍ يُعمل لهما حساب، فكم من وسيلة بررتها الغاية، بصرف النظر عن حقيقة عدالتها، ومكانها على مقياس الأخلاق، إن الأخلاق قضية بعيدة، فما أرادت الأديان بعد الإيمان أكثر من الأخلاق، ولا أرهق النبلاء من الفلاسفة والمفكرين أنفسهم، رغم إدراكهم بضعف الأثر؛ إلا رغبة في إرساء بعضًا من دعائمها .

وقد أخذت الأخلاق فى فكر أرسطو حيزا كبيرا، فحاول أن يُعرّفها، وأن يضع لها أسسا وضوابطا، وأن يفسر الارتباط بينها وبين السعادة باعتبار الأخيرة منتهى غايات البشر، حاول.. بالرغم من كونها علما يُتعِبُ من يتناوله، فلم يرى تعريفها سهلا، ولا تحقيقها هينا؛ فالأخلاق عند أرسطو، معرفة وإرادة وممارسة، بل وتحدى يستدعى سيطرة الإنسان على جسده وعقله، وتنشئة مبكرة تمكنها من الاستقرار فى منطقة اللاوعى بفعل العادة، كى تتأصل بمرور الوقت في أعماق الضمير الإنساني فتكون دافعا لا شعوريا لعمل الخير باعتباره السعادة والغاية المنشودة، لكن الناس يختلفون حول ما يُشكِّل تلك السعادة.

إن مسألة الأخلاق قديمة حديثة فى بحثها وفى تساؤلاتها، بل أن ما تقدمه من نماذج كانت ولا زالت متجددة تجدد الحياة، وفى هذا البحث، نتناول الأخلاق عند أرسطو من حيث المفهوم والضوابط، والأسس التى تنبنى عليها متبعين في ذلك المنهج التحليلى، ويأتى البحث على ثلاثة مباحث :


الأول :- مفهوم الأخلاق لغة واصطلاحا

 الثانى :- مفهوم الأخلاق عند أرسطو

الثالث :- أسس وضوابط الأخلاق كما يراها أرسطو وأوجه الصلة بينها ويناقش :

أ- وجه الصلة بين الأخلاق والسعادة 

ب - فضيلتا العلم والأخلاق كركائز للسعادة عند أرسطو

جـ - دور الاختيار فى السلوك الأخلاقى، و الفرق بين الأخلاق والسلوك.



تمهيد:

يحتل موضوع الأخلاق في الفلسفة اليونانية مكانة متميزة، حيث كان محورا أساسيا في النظريات الفلسفية المتعاقبة، من سقراط الذى كان يرى أن التمسك بالأخلاق هو من صميم مصلحة الفرد، حتى وإن لم يفهم، إلى أفلاطون الذى لخص فلسفته الأخلاقية في أن النفس أسمى من الجسد، وأنها الوجود الحقيقي، وما وجود الجسد عنده إلا وجودًا ثانويًا، إلى أرسطو الذى زاوج بين الأخلاق والسعادة، التى هى برأيه منتهى غايات البشر، والتى يستوجب تحقيقها الجمع بين الأخلاق والمعرفة.

وفى هذا البحث سوف نحاول الوقوف على مفهوم الأخلاق في فكر أرسطو، والأسس والضوابط التى تأسست عليها فكرته، وسوف نخصص المبحث الأول لتوضيح مفهوم الأخلاق لغة واصطلاحا، أما المبحث الثانى فسوف نناقش فيه ذات المفهوم في فلسفة أرسطو تحديدا بالتفصيل المبين لنظريته، وأخيرا نناقش أسس وضوابط الأخلاق كما يراها أرسطو وأوجه الصلة بينها على التفصيل المبين بالمقدمة.


المبحث الأول

مفهوم الأخلاق لغة واصطلاحا:

الأخلاق فى اللغة: مأخوذة من الخُلُق وهو السجية [1].

أما الأخلاق اصطلاحا: فقد عَرَّفَ ابنُ مسكويه علم الأخلاق بأنه:(أصول يُعرف به حال النفس من حيث ماهيتها وطبيعتها وعلة وجودها وفائدتها، وماهى الوظيفة التى تؤديها، وما الفائدة من وجودها وعن سجاياها وأميالها وما ينقلها- بسبب التعاليم - عن الحالة الفطرية، وذكر أن هذا أول علم تأسس منذ بدء الخليقة). [2]

وعُرِّف علم الأخلاق بتعريفات عدة منها:

-1- علم الأخلاق: هو جملة القواعد والأسس التي يعرف بواسطتها الإنسان معيار الخير في سلوك ما، أو مدى الفساد والشر في سلوك آخر.

 والأخلاق كعلم معيارى يكون وفق المفهوم علما خاصا بالإنسان دون باقى المخلوقات، وهو يشكل منهاجه السلوكى القائم على مجموعة من المبادئ والقيم التى تحكم قناعات الفرد[3]

-2- علم الأخلاق: هو علم تحديد معايير وقواعد السلوك، أو علم التعرف على الحقوق والواجبات [4]

-3- علم الْأَخْلَاق: علم مَوْضُوعه أَحْكَام قيمية تتَعَلَّق بِالْأَعْمَالِ الَّتِي تُوصَف بالْحسنِ أَو الْقبْح [5].


أما الأخلاق في نظر الإسلام:

فهي عبارة عن مجموعة المبادئ والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني التي يحددها الوحي لتنظيم حياة الإنسان وتحديد علاقته بغيره، على نحو يحقق الغاية من وجوده في هذا العالم على أكمل وجه. حالٌ للنفْس رَاسِخَةٌ تصدر عنها الأفعالُ من خيرٍ أو شرٍّ من غير حاجةٍ إلى فكرٍ ورويَّةٍ [6].

وعلم الأخلاق: أحد أقسام الفلسفة، وهو علم نظريّ يحدِّد مبادئ عمل الإنسان في العالم، وغرضه تحديد الغاية العليا للإنسان، أو هو علم بالفضائل وكيفية التحلِّي بها، والرذائل وكيفيّة تجنّبها. [7]

وفي اللغات الأوروبية نجد كلمة "إيتيك/Ethique " وهي اسم هذا العلم في اللغة الفرنسية؛ ترجع إلى كلمة "إيتوس/ "Ethosالإغريقية، ومعناها العادة، وبناء على هذا المعنى فقد عرفه بعض العلماء بأنه "علم العادات"، وهو تعريف تعوزه الدقة؛ لأن علم الأخلاق لا يبحث قط في أعمال الناس الإرادية؛ التي صارت عادات وتقاليد، على اختلافها باختلاف الأمم والأيام؛ إنما يبحث في توجيهها الطريق السوي طبقا لقواعده وقوانينه، وفي الحكم لها أو عليها حسب مقاييس الخير التي يضعها. [8]

ويمكن القول بأنه :"علم القواعد التي تحمل مراعاتها المرء على فعل الخير وتجنب الشر، ويصل بالعمل بها للمثل الأعلى للحياة"، أو هو "علم القواعد التي تسير عليها إرادة المرء الكامل في أعماله ليصل للمثل الأعلى"[9]

المبحث الثانى

مفهوم الأخلاق عند أرسطو

تنطلق فكرة الأخلاق عند أرسطو استنادا إلى فكرة السعادة، باعتبارها الغاية التى يجتمع عليها البشر، والتى تتحدد في سبيل الوصول إليها أهدافهم، وتترتب عليها أعمالهم، غير أن مفهوم السعادة يختلف من شخص إلى آخر، تبعا لاختلاف السلوك الأخلاقى لكل منهما، وقد صنف أرسطو هذا السلوك إلى ثلاث مراتب :

- الأولى: ترى السعادة فى اللذة وهم أصحاب الطبائع الغليظة اللذين اختاروا بمحض ذوقهم عيشة البهائم.

- الثانية: أصحاب العقول الممتازة النشيطة، الذين يرون السعادة فى تحقيق المجد أو الكرامة السياسية

- الثالثة: أصحاب الحكمة، أو العيشة التأملية والعقلية، وهى السعادة الحقيقية عند أرسطو" [10]

السعادة إذن عند أرسطو تستند إلى ركيزتين أساسيتين، فضيلة الأخلاق، وفضيلة المعرفة .

ولأن الغاية هى التى ترتب الوسيلة، فإن الغاية هى التى ترتب ما نقوم به من أفعال، غير أن تلك الأفعال ترتبط ارتباطا وثيقا بالسلوك الخلقى والحدود المعرفية لدى كل منا، وقدراته وأدواته في الاختيار، وهو ما دعا أرسطو إلى الجمع بين فضيلتى الأخلاق و المعرفة واعتبارهما الركيزتين الأساسيتين، لبلوغ السعادة وهى عنده الخير الذى وصفه بالغاية العظمى التى يتوقف عليها توجيه الحياة اختيارا.

ويلاحظ من تصنيف أرسطو أنه لا يهدف إلى مخاطبة الفئة الأولى ممن يرون السعادة في اللذة، إذ وضعهم في مرتبة البهائم، بل ويبين فيما استخدمه من مفردات مدى نفوره من تلك الفئة، وهو في ذلك يتفق مع موقف سقراط وأفلاطون من هؤلاء، وعلى النقيض تماما يرى أرسطو في عيشة التأمل العقلى أكمل حالات الوجود الإنسانى [11].

المبحث الثالث

أسس وضوابط الأخلاق كما يراها أرسطو:

لعل الركيزة الأساسية لفلسفة أرسطو في الأخلاق تنحصر في كون الهدف ومنتهى غايات الإنسان هو إدراك السّعادة، التى هى في رأيه أعلى الصفات الأخلاقية؛ وأن باقي الصفات الأخلاقية لا تعدو كونها أدوات لبلوغ الغاية العُظمى (السعادة). وأن بلوغ السعادة يرتكز بدوره على ركيزتين أساسيتين هما فضيلة الأخلاق وفضيلة العلم أو المعرفة .

وإذا حاولنا تحليل هذه الفكرة لأمكننا تلخيص فكرة أرسطو عن الأخلاق إلى :

1- أنه حدد الغاية أو الهدف الذى سوف يترتب عليه بالضرورة طبيعة السلوك الإنسانى

2- أنه تناول أصناف السلوك الإنسانى المحتملة والمترتبة بالضرورة على عدة عناصر:

- الطبائع الإنسانية: وقد قسمها إلى ثلاثة أصناف، طبيعة تميل إلى اللذة، وأخرى إلى المكانة والشرف، والأخيرة وهى المفضلة عنده وتميل إلى التأمل العقلى .

- الحدود المعرفية: ويقصد بها العلم الذى يقيّم به الإنسان أعماله وما حوله من ظواهر.

- الفضيلة الأخلاقية: وهى المحدد الحقيقى لأفعال الإنسان .

3- أنه جعل من فضيلتى العلم والأخلاق طريقا لبلوغ تلك السعادة، دون أن يتجاهل معيار الاختيار؛ لينتهى إلى أنّ الأخلاق إنما تعني العَمَل بالعقل من أجل بلوغ أعلى مراتِب الفضائل الأخلاقية التى تتخقق معها السعادة التى هى الخير عنده.

وقد اعتبر أرسطو أن الإنسان دون المخلوقات جميعا يمتلك استعداداً للسير بطريق الخير والصلاح، وأن لديه ميولا غرائزية تدفعه نحو طريق الشر؛ وأن الأخلاق هى المسئولة عن مجابهة هذه النزعة، وأنها هي الدالّة على الخير، وأنّ المعايير الخلقية هي الحاكِمة فيما نقوم به من أفعال، مع الأخذ في الاعتبار، أن أرسطو يرى أن التطبيق الأخلاقي هو الكاشِف لحقيقة النظرية الأخلاقية فالأخلاق عنده ليست خطبا أو علما نتعلمه وإنما أفعال واقعية. [12]

ما يعنى أن هناك نوعان من الفضيلة: الفكرية والأخلاقية. فأما الفضائل الفكرية فنتحصل عليها عن طريق التعليم، وأما الفضائل الأخلاقية فتأتى من العادة والممارسة المستمرة. وقد أشار أرسطو إلى استعدادنا جميعا لأن نكون فاضلين؛ فقد ولدنا جميعا ولدينا القدرة علي أن نكون فاضلين أخلاقيا، ولكن ذلك لا يأتى إلا من خلال التصرف بالطريقة الصحيحة؛ وأن ندرب أنفسنا علي أن نكون فاضلين من خلال الممارسة، وليس عن طريق التفكير في الأمر.

ولأن الظروف العملية تختلف كثيرا عن التنظير الفلسفى، فإنه لا توجد قواعد سلوك مطلقة يجب اتباعها. بدلا من ذلك، يمكننا فقط أن نلاحظ أن السلوك الصحيح يتكون من نوع ما من الوسطية بين النقيضين المنع والإفراط.

من هنا نجد أننا بحاجة للنظر في ماهية فضيلتى الأخلاق والعلم عند أرسطو ..


أ- فضيلة الأخلاق (التفوق الأخلاقى)عند أرسطو:

يتحول أرسطو فيما يستند إليه من الصلة بين الأخلاق والسعادة، إلى الصلة بين السعادة والفضيلة، فيُعَرِّف الفضيلة بأنها "سيطرة الإنسان على جسده وعقله و شهواته، وجعلها في صنفين، الأول، فضيلة السيطرة على الشهوات والأهواء بواسطة العقل، والثانى، في حياة التأمل، وهو أسمى من الأول بكثير [13]، وبالنظر فى الصنفين نجد أن أولهما عقلى، يأتي من التعليم الجيد ويحتاج إلى التجربة والزمان، وأن ثانيهما أخلاقى يتولد من العادة والشيم.. [14]

غير أن ما يلفت الانتباه في رأى أرسطو هو حديثه عن التوسط بالنسبة للفضائل الإنسانية، فالفضيلة الخلقية تتحدد عن طريق الأخذ بمفهوم الوسط، فكما أن الإفراط في الطعام، يفسد الصحة، فإن الحرمان منه أيضا يفسدها. كما أن الشجاعة هي الوسط بين التهور والجبن [15] (وكلاهما رزيلة).

الفضيلة الخلقية إذا عند أرسطو، هي وسط بين رذيلتين. كما أن الفضيلة الخلقية، والفضيلة العقلية، غايتان لبلوغ السعادة .

بيد أن هذا التوسط، هو توسط اعتبارى، يتغير بتغير الأشخاص والظروف، والعقل وحده هو الذى يقيم هذا التوسط، فالفضيلة ليست هى الغاية، وإنما وسيلة لغاية أخرى هى السعادة.

ويشير أرسطو إلى المعايير التى تميز الأشخاص الفاضلين عن الأشخاص الذين يتصرفون بالطريقة الصحيحة عن طريق الصدفة، فيرى أن الفاضل هو من يمارس الفضيلة ويجد المتعة فيما يقوم به من أعمال فاضلة [16]

- فالأشخاص الفاضلون، هم من يتصرفون بالطريقة الصحيحة، يختارون التصرف بالطريقة الصحيحة؛ من أجل أن يكونوا فاضلين، وينطلق سلوكهم من تصرف ثابت فاضل. بيد أن هناك فرقا بين الأخلاق وبين السلوك.


الفرق بين الأخلاق والسلوك:

"الأخلاق هي معاني مستقرة في النفس، وفي ضوئها يكون السلوك فعلا أو تركا، ولهذا يقول عبد الكريم زيدان: إن الإنسان قبل أن يفعل شيئا أو يتركه، يقوم بعملية وزن وتقييم لتركه أو فعله في ضوء معاني الأخلاق المستقرة في نفسه، وأن السلوك ما يأتيه الفرد من نشاط في محيطه، محفزا بدوافعه الفطرية والبيئية على حد سواء وهو انعكاس للهيئات والصفات المستقرة في النفس". [17]

ما يعنى أن الفضيلة هي أفعال جيدة وليست بمشاعر واحاسيس. فالمشاعر لا تكون موضعا للإشادة، بل الفضائل والرذائل هى التى تكون محلا لهما. فبينما تدفعنا المشاعر إلى التصرف بطريقة معينة، فإن الفضيلة هى من تلزمنا بطريقة هذا التصرف، فالفضيلة مسؤولية والتزام بالطريقة الصحيحة في كل تصرف.

وعلى ذلك فإنه يمكن تصور الفضيلة على أنها التصرف بالطريقة الصحيحة دون تفريط أو إسراف وهو ما سماه أرسطو "التوسط".


ب - فضيلة العلم :

قلنا أن أرسطو قد ارتكز فى فلسفته عن الأخلاق على ركيزتين أساسيتين، وكان العلم إحدى هاتين الركيزتين، فما هو تعريف العلم وكيف تكون صلته بالأخلاق؟

تعريف العلم : يعرف العلم بأنه المعرفة العامة المضبوطة الصادرة عن نظر وتمحيص، وهذا التعريف لا يختلف في المعنى عما عرَّفه به بعضهم من أنه "معرفة عامة تتجه في جهودها نحو العموم للوصول إلى الحقيقة"[18] ما يعنى أن العلم هو اليقين .


الصلة بين العلم والأخلاق :

إن الأصل فى السلوك الأخلاقى ينبنى على كون الأخلاق تعنى بتحديد الخير والشر، والحق والواجب، والمثل الأعلى، لذلك فمن الطبيعى أن يرتبط السلوك الأخلاقى بالقدرة المعرفية للفرد على تقييم هذا المعانى من منطلق معرفى.

وحيث إن فضيلة الأخلاق لا يمكنها أن تنبنى إلا على طلب الحقيقة؛ فإنها لا تستقيم إلا بالعلم، ففضيلة العلم هي قدرتنا على طلب الحقيقة عن طريق المعرفة والفهم وهما طريقا الأخلاق.

- كما أن الفضيلة العقلية مما يأتي من التعليم الجيد، وأن ما يميز الإنسان عما سواه من المخلوقات هو الفهم واستخدام العقل، وهما بذلك الغاية الأسمى للعلم.

- وقد سبق وذكرنا أن الفضيلة بالنسبة لأرسطو، هي سيطرة الإنسان على جسده وعقله وشهواته، وأن التزامه بحياة الفكر والتأمل هو الفضيلة الأسمى والأعلى من فضيلة التحكم في الشهوات، فمن أين يأتى الفكر والتأمل إذا لم يكن ببلوغ المراتب العليا للعلم؟!

ولكى تتضح لنا رؤية أرسطو كاملة فسوف نستعيد ما ذكره في وصف الفاضلين، ثم نتناوله بالتحليل..

يرى أرسطو أن الأشخاص الفاضلين، هم من يتصرفون بالطريقة الصحيحة، ويختارون التصرف بالطريقة الصحيحة؛ من أجل أن يكونوا فاضلين ، فينطلق بذلك سلوكهم من تصرف ثابت فاضل.

إذا هناك تصرف بطريقة صحيحة، واختيار للتصرف بالطريقة الصحيحة، ثم مبدأ ثابت ينطلق منه هذا السلوك. أى أن هناك تصرف صحيح بدافع الشعور والعادة، وآخر بالاختيار، وكلاهما نابع من تصرف فاضل ثابت.

إذا فالاختيار جزء لا يتجزأ من الفضيلة، فإذا كانت الأخلاق عند أرسطو، معرفة وإرادة وممارسة، فإن الاختيار لابد وأن يكون سابقا لهما، ولهذا سوف نحاول أن نستوضح رؤية أرسطو في هذا المقام .


جـ - الإرادة والاختيار:

ينطلق أرسطو في إرساء مبدأ الاختيار مستهلا بفكرة الأعمال الإرادية وغير الإرادية مناقشا مسألة مسؤولية الفرد عن أفعاله، والطبيعة الطوعية للهدف الأخلاقي. موضحا، أن الفضيلة أو التفوق الأخلاقي هي مسألة شعور وعمل.

وقد عرَّف أرسطو الأفعال اللاإرادية بأنها " يمكن أن تعتبر لا إرادية جميع الأفعال التى تقع بقوة قاهرة أو بجهل، الشيء الذى يقع بقوة قاهرة هو الذى تكون علته خارجية... مثال ذلك جذبتنا ريح لا قبل لنا بمقاومتها"[19] إنها الأفعال التى يتم تنفيذها تحت الإكراه أو نتيجة للجهل. ويكون الفعل اجباريا إذا كان لسبب خارج عن إرادة الفرد، وكان هذا الفرد (الفاعل للفعل) غير مساهم فيه بشيء كإجبار الريح قبطان السفينة على الخروج عن مساره المحدد.

الأفعال المرتكبة بسبب الجهل لا تعتبر عملاً طوعياً، فالفعل الذي يتم بسبب الجهل أو أثنائه، و يندم عليه الفاعل لاحقًا، يصنف من قبيل العمل اللاطوعي، وحتى هذا تم التفريق فيه فالفعل بسبب الجهل الجزئى يختلف عن الفعل بسبب الجهل الكلى، ومثال ذلك، تصرف المخمور وهو فاقد وعيه، هو نوع من أنواع الجهل الجزئى لأنه مصحوب بدرجة ما من درجات الوعى، كون صاحبه يعلم ما للخمر من تأثير وهذا يختلف بالطبع عن الجهل المترتب على الافتقار إلى المعرفة .

فليس من الممكن أن يتخيل البعض أن الأعمال الشريرة تأتى بسبب الجهل باعتبار أن صاحبها لا يفرق بين ما هو صواب وما هو خطأ، ذلك لأن أفعاله قابلة للوم، لأنها مصحوبة باختيار إرادى.

وبشكل أفضل ومن خلال القياس المنطقي البسيط يتناول أرسطو الطبيعة الطوعية للبشر، والذي يتم من خلال فرض فرضية رئيسية لتمثيل الجهل وفرضية أخرى بسيطة، ووفقًا لأرسطو، فإن جهل الفرضية الرئيسية يؤدي إلى عمل شرير، لكن جهل الفرضية الثانوية ينتج عنه عمل غير طوعي.


أما الفعل الإرادى عند أرسطو:

فهو الفعل الذى يملك فاعله الإرادة ويعرف الظروف الخاصة المحيطة بفعله.

و تصنف الأفعال المدفوعة بالعاطفة أو تلك المدفوعة بالرغبة بأنها أفعال طوعية، ذلك كون المشاعر جزءا أساسيا من البشر، وأن الأعمال التي تنبثق عنها هي مسؤولية الفرد بقدر تلك الأعمال التي يقوم بها بعد عملية فكرية منطقية.

ولكي يكون الفعل إراديا، لابد من النظر إلى إدراك الفرد لنفسه، ولفعله ولأثرة وبالنتيجة المقصودة من هذا الفعل وقبل كل ذلك، الطريقة التي يتصرف بها. فلا يمكن لأحد أن يجهل هويته، لكن ربما يجهل عواقب تصرفه، فقد يخلط بين الاشياء، وقد يخطئ في تقدير خطورة تصرف ما.

إذن الفعل اللاطوعي هو ما يقوم به الفرد تحت إكراه أو عن طريق الجهل، أما الفعل الطوعي فيمكن تعريفه بأنه: الفعل الذى يمتلك فيه الفرد الإرادة ويدرك الظروف التي يتم فيها الفعل و المحيطة به. أو هو الفعل الذى ينبع من محرك داخلى [20]

ومن خلال التفريق بين ما هو طوعى من تصرفات الفرد وبين ما هو غير طوعى يأتى دور الاختيار، إذ أن العمل الإرادى قد يترتب على اختيار الفرد ووعيه، وقد يكون مترتبا على دوافع لحظية، ولهذا يجدر بنا التفريق بين العمل الإرادى والاختيار .


ماذا يعنى الاختيار:

رأينا فيما سبق كيف أن القيم الفاضلة تترسخ في اللاشعور لتكون دافعا لما نقوم به من أفعال، وأن التصرف الصحيح يتأكد بالاختيار .. الاختيار إذا، هو قرار عمدى يفاضل به الفرد بين طريقة وأخرى عند القيام بعمل ما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالفضيلة. ويكمن الاختلاف بين الاختيار والعمل الإرادى أن الاختيار هو نتيجة لمبادرة المرء، فقد لا يمارس فيه الاختيار، فقد يأتى نتيجة لدوافع لحظية.

ويمكن تشبيه الاختيار بالرغبة العقلانية، إذ يمكن للمرء أن يتمنى ما يشاء، ممكنا كان أم مستحيلا؛ لكنه لا يمكنه أن يختار المستحيل، كما يمكنه أن يتمنى شيئا ما دونما فعل منه، بينما لا يمكنه اختيار شيء لا يعتمد على فعل ما يستلزم قيامه به. فالأمنيات لا تتطلب وسائل. بينما الاختيار يتعلق بالوسائل. وهو أحد أهم العوامل المتعلقة بالوصول للهدف الأخلاقي، والفعل الفاضل.



<img src=”تمثال لأرسطو جالسا.jpg” alt=”الأخلاق عند أرسطو “/>

من خلال ما تقدم يمكننا الوقوف على:

-أن الإنسان مخير، لا مسير، في نظر أرسطو، غير أن العادة هى التى تقيد حريته بمرور الوقت، وأن التمسك بالأخلاق أو عدم الأخلاق، يرجع إلى الإنسان نفسه، و لإرادته وحده، فالإنسان مسئول عن تصرفاته، ولن يستطيع أعادتها للوراء كمن يقذف حجرا بعيدا، فيصبح من الصعب أن يلغي هذا الفعل، معيدا الزمن للوراء.

- أن الهدف الذي يبتغيه كل منا ويعيش من أجله، في رأى أرسطو، هو تحقيق السعادة في هذه الدنيا، بيد أن هناك اختلافا في أسلوب وطريقة طلب السعادة، يرجع لاختلافنا فى فهم السعادة، فالعامة يرونها في اللذة، بينما يراها آخرون في المجد و الثروة، أما من يرونها فى حياة الحكمة والتأمل، فهم أهل السعادة عند أرسطو.

- أن الفضيلة الخلقية، والفضيلة العقلية، هما غايتان لبلوغ السعادة، وأن فضيلة العلم، هي قدرتنا على طلب الحقيقة عن طريق المعرفة والفهم، فهما أفضل طرق العلم الذى يميز الإنسان عما سواه من المخلوقات.

- أن الفضيلة العقلية تأتي من التعليم الجيد، أما باقي الفضائل، فتأتي بفعل العادة والتربية.

- أن الأخلاق عند أرسطو، معرفة وإرادة وممارسة، تستقر مع الوقت في أعماق الضمير الإنساني.

- أن الفضيلة هي سيطرة الإنسان على جسده وعقله وشهواته، وأن التزامه بحياة الفكر والتأمل هو الفضيلة الأسمى والأعلى من فضيلة التحكم في الشهوات.

- أن الفضيلة الخلقية هى وسط بين رزيلتين هما الإفراط والتفريط، فالشجاعة، هي الاختيار الوسط بين التهور والجبن. وأن الأخلاق هى التى تجعل الإنسان يختار التوسط بين الأمور، والتوسط بين الأمور هو الوسط بين الزيادة والنقصان و بين الكثرة والقلة.

وأن اختيار الانحياز لأحد هذين النقيضين، بعيدا عن التوسط، هو اختيار مجلب للخطأ .

- أن تربية أطفالنا التربية السليمة، وعلى أساس العادات القويمة تصبح عادة. 

وأخيرا ..

أن الأخلاق عند ارسطو لا يكفيها مجرد العلم بما هو صواب وما هو خطأ. بل إنها تتطلب ما هو أكثر وأبعد من المعرفة. فلن يكون للمعارف أى تأثير ما لم تكن مصحوبة بالإرادة والاختيار، الأخلاق عند أرسطو تتطلب معرفة وإرادة، ليس هذا فقط، بل معرفة وإرادة وممارسة تستقر، مع الوقت، في أعماق الضمير الإنساني. فتصبح دافعا لا شعوريا لعمل الخير.


المراجع:

- معجم المعانى

- المصباح المنير، الفيومى

- مقاييس اللغة ، ابن فارس

- تهذيب الأخلاق لابن مسكويه

- علم الاخلاق لأرسطو

- مباحث فى فلسفة الأخلاق- محمد يوسف موسى - الناشر- مؤسسة هنداوي- ط 2017

- الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام - مصطفى حلمي- الناشر كتابinc -2004 

- الأخلاق الاسلامية - صلاح الفضلي -الناشر عصير الكتب, 2019

- أنطولوجيا الفعل ومشكلة البينذاتية - رجا بهلول - المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - 2019

- الأخلاق فى الإسلام والفلسفة القديمة ، أسعد السحمرانى ،دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1- 1988

- أخلاقيات ممارسات العلاقات العامة، د. وليد خلف الله محمد دياب، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع

- الأخلاق فى الكتاب والسنة – د/ أيسر فائق جهاد الألوسى – جامعة الأنبار

- الحرية فى الفكر المعاصر - مجموعة مؤلفين - المركز العربى للأبحاث والدراسات السياسية -2015


الهوامش:

[1] المصباح المنير، الفيومى – مادة خلق 1/180، معجم مقاييس اللغة ، ابن فارس مادة خلق 2/214

[2] تهذيب الأخلاق لابن مسكويه

[3] - الأخلاق فى الإسلام والفلسفة القديمة ، أسعد السحمرانى ، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1- 1988

[4] - أسعد السحمرانى ، الأخلاق فى الإسلام والفلسفة القديمة ، نقلا عن معجم لاروس - باريس 1931

[5] - أخلاقيات ممارسات العلاقات العامة، د. وليد خلف الله محمد دياب، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع ، عن المعجم الوسيط

[6] الأخلاق فى الكتاب والسنة – د/ أيسر فائق جهاد الألوسى – جامعة الأنبار – عن مصادره

[7] معجم المعانى – عن مصادره

[8]مباحث فى فلسفة الأخلاق- محمد يوسف موسى – الناشر- مؤسسة هنداوي- ط 2017

[9]مباحث فى فلسفة الأخلاق - مرجع سابق

[10] - الأخلاق بين الفلاسفة وعلماء الإسلام - مصطفى حلمي - الناشر ktab INC., 2004

[11] - كتاب الأخلاق، لأرسطو

[12]- المرجع السابق

[13] - المرجع السابق

[14] - المرجع السابق

[15] - المرجع السابق

[16] - الأخلاق الاسلامية - صلاح الفضلي -الناشر عصير الكتب, 2019

[17] - الأخلاق فى الكتاب والسنة - أيسر الألوسى - مرجع سابق

[18] - مباحث فى فلسفة الاخلاق مرجع سابق

[19] -أنطولوجيا الفعل ومشكلة البينذاتية - رجا بهلول - المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - 2019

[20] - الحرية فى الفكر المعاصر - مجموعة مؤلفين - المركز العربى للأبحاث والدراسات السياسية -2015


الفرق بين المنطق التقليدى القديم والمنطق الرمزى الحديث

ديسمبر 21, 2020


طويلة هى الفترة التى عاشها الإنسان أسيرا للفكرة الأسطورية، والتى لم يتحرر منها إلا عندما عرف التفكير المنطقى، الذى أرسى سقراط قواعده؛ ليكون جسرا ينتقل به الإنسان من خرافات الخيال الأسطورى الغامض إلى منهجية الواقع العلمى الواضح.

ولقد خضع موضوع المنطق في مراحل تاريخه المتعاقبة لتحولات عديدة أثَّرت فيه شكلًا وموضوعًا، خاصة تلك التى ارتبط فيها بعلم الرياضيات، والتى وفرت له من النظريات والأساليب ما لم يكن متوفرا له من قبل.

قفزة هائلة تلك التى أحدثها هذا الارتباط في وظيفة المنطق وهيئته؛ فبدت وكأنها خطا فاصلا بين قديمه وحديثه، فما قبلها بات يعرف بالمنطق التقليدى القديم، وما بعدها أطلق عليه المنطق الرمزى الحديث.


فما هو المنطق ؟وما هى وظيفته؟ وما الفرق بين المنطق التقليدى القديم والمنطق الرمزى الحديث؟

يعرف المنطق لغة باسم "Logic" وهى كلمة مشتقة من كلمة "logos" اليونانية، والتي تعني في الأصل الكلمة والمقصود ما تحمله هذه الكلمة من فكر أو" لب الفكر وروحه وجوهره" [1] على حد قول الجابرى، وهو لفظ لم يستخدمه أرسطو نفسه، إذ كان العنوان الذى اندرج تحته عمل أرسطو بالمنطق هو "العلم التحليلى"[2].

أما المنطق اصطلاحا، فقد عرَّفه أرسطو ( 384 ق.م - 322 ق.م ) بأنه: (آلة العلم، وموضوعه الحقيقي هو العلم نفسه) [3] وهو وإن كان أول تعريف للمنطق إلا إنه ينطوى على تصورٍ واضحٍ لوظيفة المنطق، وإذا ما ذهبنا إلى تعريف الجرجانى (1009- 1078م)، والذى يفصله عن تعريف أرسطو أربعة عشر قرنا من الزمن، لوجدناه لا يبتعد كثيرا عن تعريف أرسطو، فقد عرف الجرجانى المنطق بأنه "الآلة القانونية التى تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ فى الفكر" [4]، وكما هو واضح لنا، فإن التعريفين لا يختلفان من حيث المعنى رغم ما بينهما من فارقٍ زمنى كبير.

بل أنه وبرغم ظهور المنطق الرمزى الحديث وما أحدثه من تطور هائل في وظيفة المنطق إلا أنه لم ينل من تعريفه الأول أو وظيفته التاريخية؛ فقد عرفه "جيفونز" في النصف الثانى من القرن التاسع عشر بأنه: "علم قوانين الفكر" [5]، كما عرفه "كـينز" بأنه "العلم الذي يستقصي المبادئ العامـة للفكــر الصحيـح" وكلاهما لا يختلفان عن التعريف الأول للمنطق، الذى عرفه به مؤسسه، كما لا يتعارض أى منهما مع طبيعة المنطق ووظيفته فى أىٍ من مراحله المختلفة، ذلك لأن موضوع المنطق هو دراسة أشكال وقوانين الفكر ذاته[6].

وعليه فإنه لا يوجد اختلاف بين المنطق التقليدى القديم والمنطق الرمزى الحديث من حيث التعريف أو الوظيفة؛ فالمنطق الرمزي الحديث لم يكن علما مستحدثا ليأتى مستقلا في تعريفه أو وظيفته؛ وإنما كان تطويرا للمفاهيم والتقنيات التي تضمنها عمل أرسطو".


فما الفرق إذن بين المنطق التقليدى القديم والمنطق الرمزى الحديث ؟

لقد تميز المنطق الرمزي بالطبيعة الرياضية التى سمحت له بالتوسع في استخدام الرموز المرنة على حساب اللغة المقيدة، فدقة اللغة الرمزية قادرة على توضيح التركيب المنطقى لاستدلالاتنا، بينما اللغة العادية عاجزة عن ذلك [7] وبالتالى ساعدت تلك الرموز على عرض أكبر للقضايا والحجج المنطقية بشكل أكثر وضوحًا، وبخاصة تلك التى يصعب التعبير عنها باللغة العادية، كما هيأت للمناطقة رسم الاستنتاجات وتقييم الحجج بشكل أوضح وأسهل [8]، ما جعله أداة أكثر قوة في التحليل والاستنتاج.

كما أن دور المتغيرات فى المنطق الرمزى أوسع بكثير مما كان عليه فى المنطق التقليدى، صحيح أن أرسطو أدخل الفكرة المهمة للمتغير في منطقه من خلال التعبير:

{ x + 2 = 5}

إلا أنه اقتصر على الأحرف الأبجدية في تمثيل المصطلحات المستخدمة في الحجج المنطقية، وفى هذا يعرض أرسطو مثالاُ يوضح لنا ذلك:

الحجة المنطقية: كل الرجال فانون، أرسطو رجل، لذلك فإن: أرسطو فانٍ

وتم التعبير عنها باستخدام رموز المنطق الأرسطي على النحو التالي:

كل M هو P ، S هي M لذلك فإن: S هي P

لكن استخدام المتغيرات في المنطق الرمزي الحديث جاء أوسع من ذلك بكثير؛ ففي المنطق الرمزي، تستخدم متغيرات البيان والمحددات الكمية للتعبير عن شكل الحجج، ولا تكتفى بالتحليل الكيفى كما عند أرسطو.. [9]

كما أن النسق الاستنباطى الرياضى بما يحتويه من صيغ يتعامل مع البناء العقلى المتكامل المترابط الأجزاء حيث يتكون النسق الاستنباطى من مفاهيم غير معرفة، ومفاهيم معرفة، ومجموعة من القضايا التى يتم تقبلها بدون برهان، تدعى البديهيات، ومن خلالها تتم البرهنة على قضايا النسق الأخرى، والتى تؤلف مجموعة المبرهنات [10] وبالتالى فإن النتائج تكون أكثر صدقا من النتيجة التى يمكن أن نحصل عليها بأدوات المنطق التقليدى القديم، والتى كان المثال السابق نموذجا لها.

ويتضح مما سبق أن المنطق الرمزى وبفضل ما يتمتع به من خصائص رياضية مثل استخدامه المكثف للرموز والمتغيرات والنسق الاستنباطى الذى يعتمد البناء العقلى المتكامل ، يمكنه القيام بكل مهام المنطق القديم، لكنه قادر كذلك على القيام بالكثير من المهام التي لم يكن المنطق القديم قادرا عليها، فالتعبير الرياضي، والتحليل، والاستنباط، والاستعانة بالملاحظة التجريبية، والنماذج الرياضية، كل ذلك هيأ له نتائج أكثر صدقا وموضوعية. فإذا كان المنطق التقليدى القديم قادرا على توفير طرق لاختبار صحة حجج اللغة العادية، فإن المنطق الرمزى قادر على توفير آليات اختبار صحة الحجج التي لا يمكن اختبارها بالمنطق التقليدى القديم.


الهوامش:

[1] - على حسن الجابرى - علم المنطق الأصول والمبادئ – دار الزمان للطباعة والنشر - 2010

[2] - علي سامي النشار ، المنطق الصوري منذ ارسطو حتى عصورنا الحاضرة ، 2000 ، دار المعرفة الجامعية

[3] - علي سامي النشار، المنطق الصوري (منذ أرسطو حتى عصورنا الحاضرة)، دار المعرفة الجامعية، 2000، ص15

[5]- عبد الكريم بن إبراهيم العرينى – فن المحاماة بالذكاءات المتعددة – مكتبة القانون والاقتصاد – الرياض – ط 2016

[6]- الكسندر ماكوفلسكى، تاريخ علم المنطق، نقله إلى العربية نديم علاء الدين، إبراهيم فتحي، دار الفارابي، بيروت، ط ،1987

[7]- اسعد الجناينى – المنطق الرمزى المعاصر – دار الشروق للنشر والتوزيع - 2007

[8] - UNIVERSITY OF CALICUT- ESSENTIALS OF SYMBOLICLOG - BA PHILOSOPHY - V SEMESTER- Admission 2011

[9]- المرجع السابق

[10]- أسعد الجناينى – المنطق الرمزى المعاصر عن مصدره – دار الشروق للنشر والتوزيع - 2007