Loading...
‏إظهار الرسائل ذات التسميات دراسات إسلامية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات دراسات إسلامية. إظهار كافة الرسائل

فضيلة الصدق

يناير 03, 2021

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الملقب بالصادق الأمين، سيدنا ونبينا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين.. أما بعد:

فلقد منَّ الله علينا بنعمة الإسلام الذى تضمن شرائع عدة لم تفصل بين مسائل العقيدة والعبادة وبين حياة وسلوك الفرد والجماعة، وإنما حفلت هذه الشرائع بما يضمن تربية النفس البشرية تربية سوية، قوامها الخلق الفاضل، ولأن الأخلاق الفاضلة لابد لها من ضابط يقومها ويدعم نشاطها؛ فإن ذلك الضابط، هو: الإيمان، فلا مكان للأخلاق بدون عقيدة حتى يشعر الإنسان بأنه إنما يمثل دينه الذي يؤمن به في كل سلوك يأتيه. فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أكمْلُ المؤمنين أحسنُهم خُلُقًا [1].

فالأخلاق وإن كانت طبيعة فطرية، إلا أنها معرضة للاختبار دائما، إن لم يكن بشواغل الحياة الدنيا فبالافتتان بالأهواء والشهوات وما ينحرف بها عن طريق الحق، لهذا بيَّن الحديث السابق ما بين الإيمان وحسن الخلق من ترابط، فالإيمان له من التأثير ما ليس لأية قوة أخرى داخلة في نفس الإنسان أو خارجة عنها.. والأخلاق في الإسلام ذات طابع شمولي فهى تشمل فكر الإنسان واعتقاده ونفسه وسلوكه، فمن أخلاق الفكر: تحري الحق، والإنصاف، والتجرد والحياد...، والصبر على التدبر والتفكر وكلها أخلاق ترتبط بفكر الإنسان، ومن أخلاق الاعتقاد: عدم تتبع الأوهام والخرافات والتقليد الأعمى.. إلى غير ذلك، وأما حب الحق والخير والشجاعة والعفة وعلو الهمة والجود فأخلاق تتصل بنفس الإنسان، وأما ما يتصل بالسلوك الظاهر من أخلاق فكثيرة.

وأمهات الأخلاق ترجع إلى خلق أصيل هو الصدق ذلك الخلق الذي يُعَدُّ ضرورة اجتماعية، لا يمكن لمجتمع أن يستغني عنه، ومتى أهمل هذا الخلق في مجتمع ما، فترقب نهاية له مأساوية بشعة.. وعلى قدر درجة ذلك الإهمال يكون تفكك المجتمع وتصارع أفراده ونهب مصالح بعضهم، ثم يبدأ انهيار هذا المجتمع وينتهي بالدمار.

ولنا أن نتخيل مجتمعًا انعدم فيه خُلُق الصدق كيف تكون الثقة بين أفراده سواءً بالعلوم والمعارف أو الأخبار أو ضمان الحقوق والعهود والوعود والمواثيق أو الدعاوي والشهادات؟

لقد جعل الإسلام من الصدق أساسا من الأسس التي يقوم عليها بناء المجتمع الإسلامي، ووضع قواعد لتربية هذا المجتمع على الصدق واتخذ كل الوسائل الكفيلة لغرس هذا الخلق العظيم في نفوس أفراده جميعًا صغاره وكباره، رجاله ونسائه، وجعل فضيلة (الصدق) جامعة ومرجعًا للأخلاق الفاضلة، ورتب عليها آثارًا حميدة في حياة الفرد والمجتمع بل و الحياة الآخرة، وفى هذه الدراسة نتناول الصدق من حيث:

- المفهوم اللغوى والاصطلاحى

- الصدق فى القرآن

- أسس الصدق

- فضائل الصدق وخصائصه

- أثر الصدق فى حياة الفرد والمجتمع

- الخاتمة

أولاً- المفهوم اللغوى والاصطلاحى

الصدق لغةً:

جاء فى معجم المعانى أن: صدَّقَ / صدَّقَ بـ / صدَّقَ على يصدِّق، تصديقًا وتصداقًا ، فهو مُصدِّق، والمفعول مُصدَّق.

صدَّق فلانًا/ صدَّق بفلان: اعترف بصدق قوله آمن به وأيدّه، ضدّ كذَّبه

صَدَّق على الأمرِ: أَقرَّه

صَدَّقَ أَقْوَالَهُ: اِعْتَبَرَهَا صَحِيحَةً مُطَابِقَةً لِلْحَقِيقَةِ

لاَ يُصَدِّقُهُ أَحَدٌ: لاَ يَأْمَنُ قَوْلَهُ أَحَدٌ، والصدق ضد الكذب.

الصدق اصطلاحًا:

الصدق ضدُّ الكذب، صَدَقَ يَصْدُقُ صَدْقًا وصِدْقًا وتَصْداقًا، وصَدَّقه: قَبِل قولَه، وصدَقَه الحديث: أَنبأَه بالصِّدْق، ويقال: صَدَقْتُ القوم. أي: قلت لهم صِدْقًا وتصادقا في الحديث وفي المودة [2]

الصدق: (هو الخبر عن الشيء على ما هو به، وهو نقيض الكذب) [3].

وقال الباجي: (الصدق الوصف للمخبَر عنه على ما هو به.) [4]

وقال الراغب الأصفهاني: (الصدق مطابقة القول الضمير والمخبَر عنه معًا، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقًا تامًّا.) [5]

الصدق: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معا، ومتى انخرم شرط من ذلك لا يكون صدقا تامًا..

والصدِّيق: الرجل الكثير الصدق.

وقيل: مَنْ لم يصدر منه الكذب أصلا.

وقيل: مَنْ لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق. وقيل: من صدق بقوله واعتاده، وحقق صدقه، قال تعالى في سورة إبراهيم:{إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّ} [6]، وقال تعالى:{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [7].

فالصديقون: قوم دون الأنبياء في الفضيلة، ولكن درجتهم تأتي درجة النبيين[8].

وأصل الصدق في الأقوال سواء كانت ماضية أو مستقبلة ولكنه يتعدى ويكون في الأعمال. لذا جاء في أحد تعاريف الصدق أنه:(هو التزام الحقيقة قولاً وعملا).[9] وعليه يمكن القول بأن الصدق هو: تطابق العقيدة والقول والعمل وتوافق ذلك مع الواقع والحقيقة.


ثانيا- الصدق في القرآن الكريم

يقول الله عز وجل واصفًا نفسه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [10] ويقول {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [11] وقد فسر المفسرون الآية بأنه لا أحد أصدق من الله عز وجل في حديثه وخبره ووعده [12].

فكل ما قيل في العلوم والأعمال مما يناقض ما أخبر به فهو باطل لمناقضته للخبر الصادق اليقين، فلا يمكن أن يكون حقا[13]، وهذا الاستفهام إنكاري يدل على أنه ليس هناك من أصدق من الله عز وجل.

وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخصص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فقال: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} [14] ، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [15]، فهم أهل الرفيق الأعلى،{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}، ولا يزال الله يمدهم بنعمه وألطافه، ويزيد إحسانا منه وتوفيقا، ولهم مزية المعية مع الله، فإن الله تعالى مع الصادقين، ولهم منزلة القرب منه؛ إذ درجتهم منه ثاني درجة النبيين، وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم: من الإيمان، والإسلام، والصدقة، والصبر وبأنهم أهل الصدق فقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّين} [16] إلى قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة، وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان.

وقسم سبحانه الناس إلى صادق ومنافق، فقال:{لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}. [17]

والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما يحارب الآخر، وأخبر سبحانه أنه في القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه، فقال تعالى:{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [18] وقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ* لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}[19] .

فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله، وعمله وحاله؛ فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال؛ كاستواء السنبلة على ساقها، والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة؛ كاستواء الرأس على الجسد، والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع، وبذل الطاقة.

فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق، وبحسب كمال هذه الأمور فيه، وقيامها به تكون صدِّيقِيَّتُه، ولذلك كان لأبي بكر الصديق ذروة الصديقية، حتى سمي الصديق على الإطلاق، والصديق أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول (ص)، مع كمال الإخلاص للمرسل.

قد أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأله أن يجعل مدخله على الصدق، فقال: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [20]

وأخبر عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه سأله أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، وبشر عباده أن لهم قدم صدق، ومقعد صدق، فقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [21]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [22]

فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، ومقعد الصدق، وقدم الصدق، وحقيقة الصدق في هذه الأشياء هو الحق الثابت المتصل بالله، الموصل إلى الله، وهو ما كان به وله من الأعمال والأقوال. وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.

وقد وصف الله عز وجل رسوله بالصدق. يقول الله عز وجل: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} فوصف الأنبياء وذريتهم بأنه أعطاهم لسان صدق.

ويقول: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}[24]. فوصف إسماعيل بأنه كان صادق الوعد، وقال لنبيه إدريس عليه السلام: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}[25].


ثالثا : أسس الصدق

أسس الصدق النفسية وانبثاقه وتأصله في النفس:

يقصد بالأسس تلك الصفات التي متى وجدت في نفس إنسان فإنه أصبح من اليسير عليه أن يتحلى بفضيلة الصدق، ومن أهم هذه الأسس:

1- محبة الحق: حيث يتولد الشعور النفسي بأن الحق هدف أسمى يسعى إليه الإنسان، ويبذل جهده في الوصول إليه، لأنه قوام الحياة كلها فيعشق الحق وتسري محبته في نفسه. أما جحود الحق مع العلم بأنه حق فذلك انحراف خلقي قبيح، والعوامل النفسية الدافعة لهذا الجحود كثيرة، وكلُّها لا تعدو أن تكون من قبيل الأهواء الجائحة[26].

وكذلك الذي يُنْكِرَ ذوي الفضل، ويجحد علم أصحاب العلم، ولا سيما إذا كان ذلك يُفْضي إلى الإضرار بمصالح ذوي الفضل والعلم، إنه لا يفعل شيئًا في ذلك إلا من حُرِم عماد الأخلاق الكريمة، وسقط في رذيلة كبرى من الرذائل الخلقية، هي رذيلة جحود الحق وعدم الاعتراف به والإذعان له.

2- ومنها الجرأة والصراحة: فإن الشجاع صدوق صريح لا يعرف المداراة والمداهنة فلا يحتال ولا يخادع ولا يكذب.

3- ومنها الأنفة ونبل النفس: فإن الإباء يدعو إلى أن يصون المرء كرامته من الدنايا، وينزهها عما لا يليق، حتى تكون نفسه نبيلة الغاية كريمة السجايا.

وأما الإيمان فهو الذي تنبثق فضيلة الصدق منه؛ إذْ إن الإيمان بالله شهيد على استقامة حياته ظاهرًا وباطنًا علانية وسرًا.

ويتأصل الصدق في النفس إذا تذكر الإنسان الآخرة، وما يكون فيها من جزاء رغبة في ثواب الله، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة.


رابعا- فضائل الصدق وخصائصه

1- الصدق رأس الفضائل، وأجمل الصفات الحميدة التي يتحلى بها الإنسان وتزيده في العلم هيبة ووقارًا. إذ به تُنَال الثقة وتُكْسب الثروة ويَطيب العيش. والصدق إحدى الضروريات التي يتوقف عليها نظام العالم بأسره. ألا ترى أنه بالصدق تثبت الحقوق، وتحفظ الأرواح. ويتم النظام، ويعيش الناس في أمان وسلام، ولولاه لانتزعت ثقة الناس بعضهم من بعض، ولما وصل إليهم شيء من الحقائق في العلوم والأديان.

ألا ترى أن الرجل الصادق يكون دائمًا موضع الثقة ومحل الأمانة مبجلاً محترمًا مهما كانت درجته. لأن الصادق لا يكون خائنًا، ولا مختلسًا، ولا موزرًا، ولا نمامًا، ولا مخادعًا، ولا غشاشًا.

فإذا عاملت رجلاً صادقًا فأنت في مأمن على مالك وعرضك. ويكون هو على يقين من رغبة الناس في معاملته. فالتاجر لا يعامله الناس إلا إذا اشتهر عنه الصدق في المعاملة. والصانع ينصرف عنه عملاؤه إذا لم يصدق في مواعيده. والطبيب لا يقصده أحد إلا إذا وثق به الناس وكان صادقًا، والصدق من أهم الأسس، بل هو الأساس المتين الذي تقوم عليه المجتمعات. ولولاه ما بقى مجتمع. ذلك لأنه لابد للجميع من أن يتفاهم أفراده بعضهم مع بعض. ومن غير التفاهم لا يمكن أن يتعاونوا.

والدليل على ضرورة الصدق هو أن أغلب المعلومات التي وصلت إلينا بالسماع أو بالقراءة مبناها الصدق. وعليها يعتمد الإنسان في معاملاته وتصرفاته. فلو كانت مكذوبة لكانت الأعمال المبنية عليها خطأ وخللاً. ولما وصل إلينا من العلم إلا القليل، ومن أجل هذا عُد الصدق أساسًا من أسس الفضائل، وعنوانًا لرقي الأمم وعزتها.

ويُعد خلق (الصدق) عماد الأخلاق ومرجعًا لأمهاتها، حيث ترى الإنسان الصادق يتصف دائمًا بالفضائل والأخلاق فتجده صريحًا لا يرائي، مستقيمًا غير متذبذب، كريمًا حازمًا، أمينًا، قنوعًا، رحيمًا، بارِّا، صابرًا، عفيفًا، متواضًعا، واضحًا، عاملاً، عادلاً، بعيدًا كل البعد عن الغش والغدر والمكر.. أما الإنسان الكاذب فتجده بعكس ذلك.

فالصدق ضرورة لبناء الشخصية، وفضيلة من فضائل السلوك الحضارية ذات النفع والأثر العظيمين.

2- الصدق يهدي إلى الإيمان وإلى كل خير يقول: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عنه الله صديقًا وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا [27].

فدل هذا الحديث على أن الصدق يهدي إلى البر، والبر كلمة جامعة تدل على كل وجوه الخير، ومختلف الأعمال الصالحات، مما هو زائد على فعل الواجبات وترك المحرمات من الأمور التي تقتضيها مرتبة التقوى.

ومن كان صدوقًا خُلُقه الصدق فإنه لا يمكن أن يكون منافقًا، لأن الكذب هو العماد الأول للنِّفاق، والصادق إما أن يؤمن حقًا ويعلن إسلامه بصدق، وإما أن يتوقف حتى تتبيَّن له الحقيقة، فخلق الصدق يمنعه من أن يظهر الإيمان كذبًا، ويبطن الكفر، كما يمنعه من جحود الحق بعد معرفته.

3- الصدق خلق قابل للاكتساب والترسيخ، ففي الحديث أيضًا دلالة على أن خُلق الصدق في حياة الإنسان قابل للاكتساب، وقابل للتنمية والترسيخ، عن طريق التدريب اعملي المقترن بالإرادة الجازمة، فمِنْ مظاهر الإرادة الجازمة تحري الصدق في الأقوال كلها، وفي مختلف وسائل التعبير العمَلية. والذي يتحرَّى الصِّدْق لا يسمَحُ لنفسه بأن يلقي كلامًا جزافًا دون تروٍّ ولا بصيرة، ولا يسمح بأن يتبع ما ليس له به علم، فيحكم بالظنون التي ليس لها ما يدعمها ويؤيدها من الأدلة الكافية للإثبات أو للنفي، ولا يسمح لنفسه بأن يرائي أو ينافق في أعماله لأنه يحرص على الصدق ويتحرى بإرادته الجازمة الصدْق في أقواله وأعماله، وعندئذ يكون صدِّيقًا، وهذا ما بينه الرسول r بقوله في الحديث: "وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا".

وجاء في رواية أخرى: "ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا".

4- الصدق أحد أسباب دخول الجنة: فعن عبادة ابن الصامت رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم»[28].

فجل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصدق أحد عناصر ستة مَنْ تحلي بها دخل الجنة، وفي هذا ترغيب بالتحلي بخلق الصدق.

5- لا يكون المؤمن كذابًا: قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[29].

وعن صفوان بن سليم: "أنه قيل لرسول الله: أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: نعم. فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم. فقيل: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا"[30].

فدلت الآية على حصر افتراء الكذب بالذين لا يؤمنون، أما الكذبات العارضات في حياة الإنسان، التي لا تكون افتراء مدبرًا مقصودًا، والتي لا تكون من خلق متأصل ثابت، فربما تقع من المؤمن.

وكذلك دل الحديث على أن المؤمن لا يكون كذابًا، أي: لا يصل إلى مستوى في تحري الكذب يوصف فيه بأنه كذاب، أما الكذبات العارضات فليس في الحديث ما يدل على أنها لا تكون من المؤمن، وذلك لأن (كذاب) صيغة مبالغة تدل على تمكن خلق الكذب في نفسه. فافتراؤه وافتعاله عن إصرار وتعمد إنما يفعله الكذابون الذين لا يؤمنون فتبيَّن تلازم الإيمان والصدق.

6- حصول الصادقين على معية الله ومنزلة القرب منه: قد أمر الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين وخصص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فقال:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [31].

ولهم منزلة القرب منه، إذ درجتهم تأتي درجة النبيين، أثنى عليهم بأحسن أعمالهم من الإيمان والإسلام، والصدق والصبر وبأنهم أهل الصدق، فقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[32]، وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة، وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان.

خامسا - أثر الصدق في حياة الفرد والمجتمع

الصدق يورث التقوى والمغفرة والأجر العظيم، لقد حث الله عز وجل المؤمنين على الالتزام بالصدق وأثنى عليهم يقول الله تعالى: {يأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[33]، ويقول: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ}[34]، وهؤلاء ممن قال عنهم: {أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}، ويقول: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}[35]. ففي الآية الأولى يحث الله عز وجل عباده الصالحين المؤمنين بأن يصاحبوا الصادقين، وذكر قبله التقوى:{اتَّقُوا اللَّهَ} ويفهم من هذا أن التزام الصدق يورث التقوى في الإنسان، ويؤكد ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[36].

وفي الآية الثانية ذكر الله عز وجل أنه وعد الصادقين المغفرة والأجر العظيم، ماذا يريد المؤمن غير هذا؟ المغفرة من الله عز وجل والأجر العظيم كان يكفي له أن يغفر ذنوبه، لكن عطاء الله عز وجل لا يقف عند هذا فإنه أعد للمؤمنين الصادقين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولو وضعنا أمام هذه ما ورد في الحديث أن الصدق ينجي والكذب يهلك لاتضح لنا جليًا أن الكذب فعل يهلك الإنسان، في دينه ودنياه.

الصدق أساس في تقوية القيم الروحية وتزكية النفوس البشرية وتطهير القلوب والرقي بالأمم إلى الفضيلة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله: بما يعرف المؤمن؟ قال: "بوقاره، ولين كلامه، وصدق حديثه"[37].

وفي الحديث: "إن أهل الجنة كل عين هين سهل طلق".

وقال بعض الحكماء: الصدق أزين حلية والمعروف أربح تجارة والشكر أدون نعمة. وتفشي خلق الصدق بين الناس ينقي النفوس من الشوائب والرذائل والدنس، قال عمر بن الخطاب: "أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم أسمًا فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم خلقًا، فإذا اختبرناكم فأحبكم إلينا أصدقكم حديثًا."


* ظهور علامات الصدق في وجه الصادق:

 فالصادق تظهر علامة صدقه على وجهه وصوته، فكان رسول الله يتحدث إلى من لا يعرفه، فيقول: والله ما هذا بوجه كذاب ولا صوت كذاب. ولا شك أن أهمية الصدق تؤثر على الصادق كما تؤثر على المخاطب مما يحمله على قبول قول المتكلم الصادق واحترامه.


* الصدق فيه النجاة: 

لقد كانت قصة المخلفين الثلاثة من أشهر القصص ومثلاً بالغًا لأروع الصور في صدق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحد أبطالها كعب بن مالك، والثاني: مرارة بن الربيع، والثالث: هلال بن أمية، والقصة بإيجاز هي: في غزوة تبوك تخلف ثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق هم الثلاثة المذكورون آنفًا فلما رجع رسول الله إلى المدينة، جاءه المخلفون فاعتذروا إليه فقبل عذرهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وجاءه كعب بن مالك فلما سلم على رسول الله تَبَسَّمَ المغضب، وقال كعب: ثم قال: تعال. فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت، لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه، وإني لأرجو فيه عقابي من الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر من حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك" وفعل مثل ما فعل كعبٌ مرارةُ بن الربيع، وهلالُ بن أمية، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلام هؤلاء الثلاثة ولبثوا على ذلك خمسين ليلة لا يكلمهم أحد من الصحابة حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فماذا كان جزاء صدق هؤلاء الثلاثة؟ لقد نزل الوحي بتوبتهم، وأصبحت قصتهم قرآنا يتلى، وتسارع الصحابة يحملون بشرى هذه التوبة إلى كعب بن مالك فقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور. قال: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا، بل من عند الله» فقلت: يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، وأنزل الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[38] 

ومما ورد في سير التابعين هذا الأثر:

كان ربعي بن حراش العبسي الكوفي صدوقًا ثقة، ذكر عند أهل السير أنه من خيار الناس، لم يكن يكذب كذبة قط، وهو من رجال السنة، وله موقف رائع مع الحجاج الذي كان يأخذ بالظنة، كان صدقه منجاة أنقذ الله به ولديه من بطش الحجاج وتعسفه. قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا سفيان، قال: ذكرت ربعي، وتدرون من ربعي؟ كأنه ربعي من أشجع، زعم قومه أنه لم يكذب قط فسعى به ساع إلى الحجاج بن يوسف، فقالوا: ههنا رجل من أشجع زعم قومه أنه لم يكذب قط، وأنه سيكذب لك اليوم، فإنك ضربت على ابنيه البعث، وهما في البيت فغضب، فبعث إليه فإذا شيخ منحنٍ، فقال له: ما فعل ابناك؟ قال هما هذان في البيت، قال: فحمله وكساه وأوصى به خيرًا [39].

وقال ابن خلكان: (يقال عن ربعي بن خراش العبسي الكوفي أنه لم يكذب قط، وكان له ابنان عاصيان زمن الحجاج، فقيل للحجاج، إنَّ أباهما لا يكذب قط، لو أرسلت إليه فسألته عنهما؟ فأرسل إليه، فقال: أين ابناك؟ فقال: هما في البيت، قال: قد عفونا عنهما لصدقك).


* الصدق يؤدي إلى الخير:

 قال تعالى:{فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}[40] .


* الصدق ينجي العبد من أهوال القيامة:

 قال تعالى:{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [41]


* الصدق يورث منازل الشهداء:

 فعن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه"[42].


*والصدق يورث الطمأنينة والراحة النفسية:

 فعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم "دع ما يريبك إلى ما لا ريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة." [43]


* في الصدق البركة:

إن الصدق له آثاره الحميدة في تعامل الناس بيعًا وشراء وإجارة، هذه الآثار التي تؤتي ثمارها في الدنيا بالنماء والبركة، وتؤتي ثمارها في الآخرة بالثواب والأجر، وعلى النقيض من ذلك يكون الكذب ممحقة للبركة ومناطا للعقاب.

عن حكيم بن حزام أن النبي قال: "البيعان بالخيار ما لا يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما." [44]في الصدق سعادة المجتمع والمحبة بين الناس والشعور بالثقة المتبادلة:

ليس الصدق فرعا من الشجاعة الأدبية فحسب، ولكنه ثمرتها، وهو فوق ذلك ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية لا تستقيم إلا به.

إن من آثار الصدق ونتائجه في المجتمع إشاعته المحبة بين الناس حيث يشعر أفراد المجتمع بالثقة المتبادلة ويرسي أسس التعاون الهادف بين الناس، ويساعد على نشر الفضائل وتقدير ذويها، ويجعل للحق هيبة في المجتمع، تحد من مجاراة المنحرفين ومداهنة المنافقين.

تسعد الجماعة وتنتظم شؤونها على قدر احتفاظها بفضيلة الصدق، فالمعاملات: كالبيع والإجارة والقرض والشركة لا يتسع مجالها ويستقيم سيرها إلا أن تديرها لهجة صادقة.

والأمة التي تسود فيها فضيلة صدق الحديث، حتى يكون القائم بأي عمل موضع ثقة الجمهور، تتقدم حالتها الاقتصادية، ولا يجد عدوها الوسيلة إلى مزاحمتها ما دامت جادة صادقة.

والصداقات التي تجعل أفراد الأمة كالجسد الواحد، إنما يشتد رباطها على قدر ما يكون لهؤلاء الأفراد من الاحتفاظ بصدق الحديث والتعامل.

وقد يكون للكاذب صديق من صنف أصدقاء المنفعة، ولكنه لا يستطيع أن يتخذ من إخوان الفضيلة صديقًا حميمًا.

فالذي يستهين بالكلمة الكاذبة، يطلق بها لسانه، يؤذي نفسه، ويرهق المجتمع خللاً وفسادًا، فالكاذب لا يعد عضوا أضل فقط، وإنما هو عضو يحمل دما مسمومًا لا يلبث أن يسري إلى الأعضاء المتصلة به فيؤذيها.


في الصدق الشعور بالمسئولية والوقوف مع الحق:

للصدق أثار أخروية في شعور المسلم بمسئوليته ووقوفه مع الحق والتزامه نهجه، طاعة لله، وتقربا إليه فيكون أهلا لرعاية الله وتأييده، جديرًا بها، وبالفوز والنعيم في الدار الآخرة، فقد أمر الله أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}[45]


في الصدق الإيمان، ولا يجتمع الإيمان مع الكذب:

قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.}[46]


بالصدق تتذلل الصعوبات: 

وذلك كلما تحرى الإنسان الصدق في المواقف المختلفة ذللت له الصعوبات التي تواجه أهل الصدق ثم يعتاد الصدق حتى يكون صدِّيقًا.

الصدق أعظم وسام يمنح من الأصدقاء:

 فإن اختيار الأصدقاء الأوفياء يعصم من مفسدة الكذب. روى الترمذي بإسناد صحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" [47]

لقد صحب أبو بكر الصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وسبق إلى الإيمان به، وصدقه إذ كذبه الناس في الإسراء والمعراج، ورافقه في الهجرة وفي الغار وفي المشاهد كلها إلى أن مات فكان أعظم وسام منحه له صلى الله عليه وسلم أن سماه صديقا.


الخاتمة

وأخيرا: فإن الصدق مورث للتقوى والمغفرة والأجر العظيم، ولقد حث الله عز وجل المؤمنين على الالتزام به وأثنى عليهم حين قال:{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، فهو أساس في تقوية القيم الروحية وتزكية النفوس البشرية وتطهير القلوب والرقي بالأمم إلى الفضيلة، ولا يقتصر فضل الصدق على الدنيا وإنما يمتد لتكون له آثار أخروية فشعور المسلم بمسئوليته ووقوفه مع الحق والتزامه نهجه، طاعة لله، وتقربا إليه يجعله أهلا لرعاية الله وتأييده، جديرًا بها، وبالفوز والنعيم في الدار الآخرة، فقد أمر الله أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}


المراجع

1- القرآن الكريم

2- لسان العرب لابن منظور

3- حلية الأولياء – لأبى نعيم

4- سيرة ابن هشام - عبد الملك بن هشام

5- الوجيز فى الأخلاق الإسلامية وأسسها - لعبد الرحمن الميدانى

6- تفسير ابن كثير

7- بصائر التمييز - الفيروز آبادي مجد الدين

8- إخلاص المسلم – محمد سعيد معيض

9- تيسير الكريم الرحمن - عبدالرحمن بن ناصر السعدي

10- الواضح في أصول الفقه - محمد سليمان عبد الله الأشقر.

11- أحكام الفصول للباجى

12- سنن الترمذى - للترمذى


الهوامش:

[1] أخرجه الترمذي بإسناد صحيح.

[2] لسان العرب – لابن منظور

[3] الواضح في أصول الفقه - لابن عقيل

[4] إحكام الفصول- للباجي

[5] الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني

[6] سورة مريم: الآية 41.

[7] سورة النساء: الآية 69.

[8] بصائر ذوي التميز: (3/379).

[9] أخلاص المسلم، د/ محمد سعيد معيض: (ص61).

[10] سورة النساء: الآية 122.

[11] سورة النساء: الآية 87.

[12] انظر «تفسير ابن كثير» (1/457).

[13] «تيسير الكريم الرحمن»: (1/119).

[14] سورة التوبة: الآية 119.

[15] سورة النساء: الآية 69.

[16] سورة البقرة: الآية 177.

[17] سورة الأحزاب: الآية 24.

[18] سورة المائدة: الآية 119.

[19] سورة الزمر: الآيات 33-35.

[20] سورة الإسراء: الآية 80.

[21] سورة يونس: الآية 2.

[22] سورة القمر: الآيتان 54، 55.

[23] سورة مريم: الآية 50، وانظر بصائر ذوي التمييز: (جـ3).

[24] سورة مريم: الآية 54.

[25]سورة مريم: الآية 56.

[26] الوجيزة في الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن الميداني: (ص212).

[27] متفق عليه من حديث ابن مسعود.

[28] رواه الإمام أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان.

[29] سورة النحل: الآية 105.

[30] رواه الإمام مالك في الموطأ.

[31] سورة التوبة: الآية 119.

[32] سورة البقرة: الآية 177.

[33] سورة التوبة: الآية 119.

[34] سورة الأحزاب: الآية 35.

[35] سورة محمد: الآية 21.

[36] سورة الزمر: الآية 33.

[37] رواه هناد عن مجمع بن يحيى مرسلا، حديث حسن.

[38] سورة التوبة: الآيات 117-119، والقصة مشهورة في كتب الأحاديث والسير، ينظر سيرة ابن هشام وصحيح البخاري، كتاب المغازي.

[39] حلية الأولياء.

[40] سورة محمد: الآية 21.

[41] سورة المائدة: الآية 119.

[42] رواه مسلم.

[43] أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.

[44] أخرجه البخاري وغيره.

[45] سورة النساء: الآية 69.

[46] سورة البقرة: الآية 177.

[47] سنن الترمذي.

صور الإحسان فى الإسلام ..

يناير 03, 2021


الحمد لله الذى جعلنا مسلمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ..

يقول تعالى فى سورة القصص مخاطبا نبيه الكريم (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ، وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [1] وقد أتى أمر الله تعالى فى الآية بالإحسان متبوعا بالنهى عن الإفساد فكلاهما يتضاد مع الآخر؛ فالمعنى البسيط للإحسان هو اتقان العمل ونفع الناس[2]؛ فأما إتقان العمل فيبدأ بإتقان العبادة ثم بإتقان ما يأتيه المسلم من قولٍ وعمل وفى هذا المعنى كان تعريف جبريل عليه السلام حين سأله عليه الصلاة والسلام: "ما الإحسان ؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. [3] وفى هذا الحديث قال ابن العربي: فيه أقوال كثيرة؛ جماعها استعمال نعم الله في طاعة الله [4]، وفى تفسير الآية الكريمة (وأحسِنْ كما أحسَنَ الله إليك) أي : أحسِنْ بطاعة الله كَمَا أحسَنَ الله إليك بنعمته. وقيل: وأحسِنْ كما أحسَنَ الله إليك أي: أحسِنْ إلى خلقِهِ كما أحسَنَ هو إليك. [5]


إذن فهناك إحسان من الخالق وإحسان من المخلوق، وإحسان بحق الخالق وإحسان بحق المخلوق؛ فأما إحسان الخالق فيتمثل فى نعمِهِ التى لا تعدُ ولا تحصى، وأما إحسان المخلوق فعلى وجهين؛ الأول: فى حق الخالق .. بأن يَعبد المسلم خالقهُ وعبادتهُ على وجه الحضور؛ مستشعرا مُراقبة الله سبحانه وتعالى، فيَشعر وكأنّه يرى الله سبحانه، ويَتّيقن أنَّ الله مُطّلِعٌ عليه، وناظرٌ إليه؛ ممّا يدفع به إلى دوام طاعة الله، وإلى زيادة التقرّب إلى الله، وهو رادعٌ قويٌ عن المعاصي، ويكون أيضا على درجات. وأما الثانى فيتعلق بحقوق المخلوقات وما يأتيه المسلم فى حقهم من قول وعمل وله صور عديدة يبينها قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)[6] فالمقصود بالإحسان في الآية: الإحسان الّذي هو فوق العدل؛ حيث إنّ العدل يعني أن يُعطي الإنسان ما عليه ويأخذ منهم ما له، أمّا الإحسان فيعني أن يُعطي الإنسان أكثر ممّا عليه ويأخذ أقلّ ممّا له..


ومما سبق يمكن القول بأن الإحسان هو حسن الخلق بالقول والعمل مع الخالق، فى جميل طاعته وحسن عبادته، ومع المخلوقات، فى أمور الدنيا وألوان المعاملات، وهذا ما سوف نتناوله فى هذه الدراسة..


الأول: تعريف الإحسان

الإحسان زائد على العدل[7] وفى هذا المعنى قال سفيان بن عيينة: العدل في هذا الموضع هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا. والإحسان؛ أن تكون سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء والمنكر؛ أن تكون علانيته أحسن من سريرته [8] .فهو للوالدين ببرِّهما بالمعروف، وطاعتهما في غير معصية الله، وإيصال الخير إليهما، وكفِّ الأذى عنهما، والدُّعاء والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما وهو للأقارب ببرِّهم ورحمتهم والعطف عليهم، وفعل ما يَجْمُل فعله معهم، وترك ما يسيء إليهم. وهو لليتامى بالمحافظة على أموالهم، وصيانة حقوقهم، وتأديبهم وتربيتهم بالحسنى، والمسح على رؤوسهم. وهو للمساكين بسدِّ جوعهم، وستر عورتهم، وعدم احتقارهم وازدرائهم، وعدم المساس بهم بسوء، وإيصال النَّفع إليهم بما يستطيع، وهو لابن السَّبيل بقضاء حاجته، وسدِّ خلَّته، ورعاية ماله، وصيانة كرامته، وبإرشاده إن استرشد، وهدايته إن ضلَّ. وهو للخادم بإتيانه أجره قبل أن يجفَّ عرقه، وبعدم إلزامه ما لا يلزمه، أو تكليفه بما لا يطيق، وبصون كرامته، واحترام شخصيَّته. وهو لعموم النَّاس بالتَّلطُّف في القول لهم، ومجاملتهم في المعاملة، وبإرشاد ضالِّهم، وتعليم جاهلهم، والاعتراف بحقوقهم، وبإيصال النَّفع إليهم، وكفِّ الأذى عنهم. وهو للحيوان بإطعامه إن جاع، ومداواته إن مرض، وبعدم تكليفه بما لا يطيق، وحمله على ما لا يقدر، وبالرِّفق به إن عمل، وإراحته إن تعب . وهو في الأعمال البدنيَّة بإجادة العمل، وإتقان الصَّنعة، وبتخليص سائر الأعمال مِن الغش[9].


الثانى: صور الإحسان:

الإحْسَان في عبادة الله: والإحْسَان في عبادة الله له ركن واحد بيَّنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: بأن تعبد الله كأنَّك تراه فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك. فأخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ مرتبة الإحْسَان على درجتين، وأنَّ المحسنين في الإحْسَان على درجتين متفاوتتين، الدَّرجة الأولى: وهي أن تعبد الله كأنَّك تراه. الدَّرجة الثَّانية: أن تعبد الله لأنَّه يراك، والمعنى إذا لم تستطع أن تعبد الله كأنَّك تراه وتشاهده رأي العين، فانزل إلى المرتبة الثَّانية، وهي أن تعبد الله لأنَّه يراك. فالأولى عبادة رغبة وطمع، والثَّانية عبادة خوف ورهب.[10]


- الإحْسَان إلى الوالدين

جاءت نصوص كثيرة تحثُّ على حقوق الوالدين وبرِّهما والإحْسَان إليهما قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[11]


قال القرطبي: (قال العلماء: فأحقُّ النَّاس بعد الخالق المنَّان بالشُّكر والإحْسَان والتزام البرِّ والطَّاعة له والإذعان مَن قرن الله الإحْسَان إليه بعبادته وطاعته، وشكره بشكره، وهما الوالدان[12]، فقال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) [13].وقوله تعالى): قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[14]


وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ العمل أفضل؟ قال: الصَّلاة لوقتها. قال قلت: ثمَّ أي؟ قال: برُّ الوالدين. قال قلت: ثمَّ أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله[15] قال الرَّازي: أجمع أكثر العلماء على أنَّه يجب تعظيم الوالدين والإحْسَان إليهما إحسانًا غير مقيَّد بكونهما مؤمنين؛ لقوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[16]


- الإحْسَان إلى الجار:

عن أبي شُريح الخُزاعي أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت [17]. ويكرم جاره بالإحسان إليه وكف الأذى عنه، وتحمل ما يصدر منه، والبشر في وجهه، وغير ذلك من وجوه الإكرام [18]


- الإحْسَان إلى اليتامى والمساكين:

ومِن الإحْسَان إلى اليتامى والمساكين: المحافظة على حقوقهم والقيام بتربيتهم، والعطف عليهم، ومدُّ يد العون لهم، قال تعالى) : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ ([19] فإنَّ الإحْسَان إليهم والبرَّ بهم وكفالة عيشهم وصيانة مستقبلهم مِن أزكى القربات، بل إنَّ العواطف المنحرفة تعتدل في هذا المسلك وتلزم الجادَّة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أنَّ رجلًا شكا إلى رسول الله قسوة قلبه، فقال: امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين [20] . وفي رواية: أنَّ رجلًا جاءه يشكو قسوة قلبه، فقال له: أتحبُّ أن يلين قلبك وتدرك حاجتك، ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه مِن طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك [21] وذلك أنَّ القلب يتبلَّد في المجتمعات التي تضجُّ بالمرح الدَّائم، والتي تصبح وتمسي وهي لا ترى مِن الحياة غير آفاقها الزَّاهرة ونعمها الباهرة، والمترفون إنَّما يتنكَّرون لآلام الجماهير؛ لأنَّ الملذَّات -التي تُيَسَّر لهم- تُغلِّف أفئدتهم وتطمس بصائرهم، فلا تجعلهم يشعرون بحاجة المحتاج وألم المتألِّم وحزن المحزون، والنَّاس إنَّما يُرْزَقون الأفئدة النَّبيلة والمشاعر المرهفة عندما ينقلبون في أحوال الحياة المختلفة، ويُبْلَون مسَّ السَّرَّاء والضَّرَّاء.. عندئذ يحسُّون بالوحشة مع اليتيم وبالفقدان مع الثَّكلى وبالتعب مع البائس الفقير[22]


- الإحسان في المعاملات التجارية :

قد أمر الله تعالى بالعدل والإحْسَان جميعًا، والعدل سبب النَّجاة فقط، وهو يجري من التِّجارة مجرى سلامة رأس المال، والإحْسَان سبب الفوز ونيل السَّعادة، وهو يجري من التِّجارة مجرى الرِّبح، ولا يُعدُّ مِن العقلاء مَن قنع في معاملات الدُّنْيا برأس ماله، فكذا في معاملات الآخرة.


ولا ينبغي للمتديِّن أن يقتصر على العدل واجتناب الظُّلم، ويدع أبواب الإحْسَان وقد قال الله تعالى: (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)[23]، وقال عز وجل: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ[24]، وقال سبحانه: (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)[25] وينال المعامل رتبة الإحْسَان بواحدٍ مِن ستَّة أمور:

الأوَّل: في المغابنة، فينبغي أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة، فأمَّا أصل المغابنة فمأذونٌ فيه، لأنَّ البيع للرِّبح، ولا يمكن ذلك إلَّا بغبن، ولكن يراعى فيه التَّقريب، ومَن قنع بربحٍ قليلٍ كثرت معاملاته، واستفاد مِن تكررها ربحًا كثيرًا، وبه تظهر البركة.


الثَّاني: في احتمال الغبن، والمشتري إن اشترى طعامًا مِن ضعيف أو شيئًا مِن فقير فلا بأس أن يحتمل الغبن ويتساهل، ويكون به محسنًا وداخلًا في قوله عليه السَّلام: رحم الله إمرأ سهل البيع سهل الشِّراء سهل الأخذ سهل العطاء سهل القضاء سهل التقاضي [26]، وأما احتمال الغبن مِن الغني فليس محمودًا، بل هو تضييع مال مِن غير أجر ولا حمد، وكان كثيرٌ مِن السَّلف يستقصون في الشِّراء، ويهبون مِن ذلك الجزيل مِن المال، فقيل لبعضهم في ذلك فقال: إنَّ الواهب يعطي فضله، وإنَّ المغبون يغبن عقله.


الثَّالث: في استيفاء الثَّمن وسائر الدُّيون والإحْسَان فيه مرَّة بالمسامحة وحطِّ البعض، ومرَّة بالإمهال والتَّأخير، ومرَّة بالمساهلة في طلب جودة النَّقد، وكلُّ ذلك مندوبٌ إليه ومحثوثٌ عليه، وفي الخبر: مَن أقرض دينارًا إلى أجلٍ، فله بكلِّ يوم صدقة إلى أجله، فإذا حلَّ الأجل فأنظره بعده، فله بكلِّ يوم مثل ذلك الدَّين صدقة [27]، ونظر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى رجل يلازم رجلًا بدين، فأومأ إلى صاحب الدَّين بيده، أي: ضع الشَّطر، ففعل، فقال للمديون: قم فأعطه[28].


الرابع: في توفية الدَّين: ومِن الإحْسَان فيه حسن القضاء، وذلك بأن يمشي إلى صاحب الحقِّ، ولا يكلِّفه أن يمشي إليه يتقاضاه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: خيركم أحسنكم قضاءً [29]، ومهما قدر على قضاء الدَّين فليبادر إليه ولو قبل وقته، وإن عجز فلينوِ قضاءه مهما قدر، ومهما كلَّمه مستحقُّ الحقِّ بكلام خشن، فليتحمَّله وليقابله باللُّطف اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم لـمَّا ردَّد عليه كلامه صاحب الدَّين، فهمَّ به أصحابه، فقال: دعوه؛ فإنَّ لصاحب الحقِّ مقالًا [30].ومِن الإحْسَان أن يميل الحكم إلى مَن عليه الدَّين لعسره.


- أن يُقيل مَن يستقيله [31]: فإنَّه لا يستقيل إلَّا متندِّمٌ مُسْتَضِرٌّ بالبيع، ولا ينبغي أن يرضى لنفسه أن يكون سبب استضرار أخيه، وفي الخبر: مَن أقال نادمًا صفقته، أقال الله عثرته يوم القيامة[32].

- أن يقصد في معاملته جماعة مِن الفقراء بالنَّسيئةوهو في الحال عازم على أن لا يطالبهم إن لم يظهر لهم مَيْسَرة، وكان مِن السَّلف مَن يقول لفقير: خذ ما تريد، فإن يُسِّر لك فاقض، وإلَّا فأنت في حلٍّ منه وسعة.


الإحْسَان إلى المسيء:

ومِن أجلِّ أنواع الإحْسَان: الإحْسَان إلى مَن أساء إليك بقولٍ أو فعلٍ. قال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [33]


ومن كانت طريقته الإحْسَان، أحسن الله جزاءه :هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [34]: وذكر الهرويُّ أنَّ مِن منازل إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين (الفتوَّة)، وقال: (هي على ثلاث درجات، الدَّرجة الأولى ترك الخصومة، والتَّغافل عن الزلَّة، ونسيان الأذيَّة. والدَّرجة الثَّانية أن تقرِّب مَن يقصيك، وتكرم مَن يؤذيك، وتعتذر إلى مَن يجني عليك، سماحةً لا كظمًا، ومودَّةً لا مصابرةً[35].


قال ابن القيِّم في ذلك: (هذه الدَّرجة أعلى ممَّا قبلها وأصعب؛ فإنَّ الأولى تتضمَّن ترك المقابلة والتَّغافل، وهذه تتضمَّن الإحْسَان إلى مَن أساء إليك، ومعاملته بضِدِّ ما عاملك به، فيكون الإحْسَان والإساءة بينك وبينه خُطَّتين فخُطَّتك: الإحْسَان. وخُطَّته: الإساءة.


وفي مثلها قال القائل:

إذا مرِضْنا أتَيْناكم نَعودُكمُ         وتُذْنبون فنَأْتيكم ونَعتذرُ   

        

ومَن أراد فهم هذه الدَّرجة كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مع النَّاس يجدها بعينها[36].


- الإحْسَان في الكلام:

قال تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [37]. قال ابن كثير: (يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة الطَّيبة؛ فإنَّهم إذا لم يفعلوا ذلك، نزغ الشَّيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشَّرُّ والمخاصمة والمقاتلة، فإنَّ الشَّيطان عدوٌّ لآدم وذرِّيته مِن حين امتنع مِن السُّجود لآدم، فعداوته ظاهرة بيِّنة؛ ولهذا نهى أن يشير الرَّجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإنَّ الشَّيطان ينزغ في يده، أي: فربَّما أصابه بها) [38]


الإحْسَان في الجدال:

يقول الله تبارك وتعالى: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )[39].. قال الشَّوكاني: (أي: بالطَّريق التي هي أحسن طرق المجادلة. وإنَّما أمر -سبحانه- بالمجادلة الحسنة لكون الدَّاعي محقًّا وغرضه صحيحًا، وكان خصمه مبطلًا وغرضه فاسدًا[40]


- الإحْسَان إلى الحيوان:

ومِن الإحْسَان إلى الحيوان، إطعامه والاهتمام به، وحدُّ الشَّفرة عند ذبحه، وأن لا يحدَّ الشَّفرة أمامه، وعدم الحمل إليه أكثر مِن طاقته.

قال صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله كتب الإحْسَان على كلِّ شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة...، وكره أبو هريرة أن تُحَدَّ الشَّفرة والشَّاة تنظر إليها، وروى أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا أضجع شاة، فوضع رجله على عنقها، وهو يحدُّ شَفْرته، فقال له صلى الله عليه وسلم: ويلك، أردت أن تميتها موتات؟ هلا أحددت شَفْرتك قبل أن تضجعها[41]، وكان عمر بن الخطَّاب ينهى أن تُذْبَح الشَّاة عند الشَّاة .


قال ابن رجب: (والإحْسَان في قتل ما يجوز قتله مِن النَّاس والدَّواب: إزهاق نفسه على أسرع الوجوه، وأسهلها. وهذا النَّوع هو الذي ذكره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، ولعلَّه ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال، فقال: إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، والقِتْلة والذِّبْحة -بالكسر- أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذَّبح، وهيئة القَتْل. وهذا يدلُّ على وجوب الإسراع في إزهاق النُّفوس التي يُبَاح إزهاقها على أسهل الوجوه. وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحْسَان في الذَّبيحة [42] 


وقال صلى الله عليه وسلم: في كلِّ كبد رطبة أجر[43] .

قال النَّوويُّ: (معناه في الإحْسَان إلى كلِّ حيوان حي - بسقيه ونحوه- أجر، وسمَّي الحي ذا كبد رطبة؛ لأنَّ الميِّت يجفُّ جسمه وكبده. ففي الحديث الحثُّ على الإحْسَان إلى الحيوان المحترم، وهو ما لا يُؤمر بقتله. فأمَّا المأمور بقتله فيمتثل أمر الشَّرع في قتله، والمأمور بقتله كالكافر الحربي والمرتد والكلب العقور والفواسق الخمس المذكورات في الحديث وما في معناهن. وأمَّا المحترم فيحصل الثَّواب بسقيه والإحْسَان إليه، أيضًا بإطعامه وغيره سواءً كان مملوكًا أو مباحًا، وسواءً كان مملوكًا له أو لغير [44]

وقال صلى الله عليه وسلم : عُذِّبت امرأة في هرَّة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النَّار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل خَشَاش الأرض[45]


الخاتمة

الإحسان هو: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

و هو إتقان الشيء وإكماله على الوجه الذي يرضى الله عنه.

أساس الإحسان حب الله - تعالى -الذي يحمل المرء على ابتغاء مرضاته.

والإسلام على ثلاث مراتب: الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان. والإحسان هو أعلى مراتب المراقبة وهو أعلى مراتب الإيمان. ذلك لأنه زائد على العدل الذى هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا. والإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء والمنكر: أن تكون علانيته أحسن من سريرته .وللإحسان صور متعددة فهو للوالدين ببرِّهما بالمعروف، وطاعتهما في غير معصية الله، وإيصال الخير إليهما، وكفِّ الأذى عنهما، والدُّعاء والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما وهو للأقارب ببرِّهم ورحمتهم والعطف عليهم، وفعل ما يَجْمُل فعله معهم، وترك ما يسيء إليهم. وهو لليتامى بالمحافظة على أموالهم، وصيانة حقوقهم، وتأديبهم وتربيتهم بالحسنى، والمسح على رؤوسهم .


وهو للمساكين بسدِّ جوعهم، وستر عورتهم، وعدم احتقارهم وازدرائهم، وعدم المساس بهم بسوء، وإيصال النَّفع إليهم بما يستطيع، وهو لابن السَّبيل بقضاء حاجته، وسدِّ خلَّته، ورعاية ماله، وصيانة كرامته، وبإرشاده إن استرشد، وهدايته إن ضلَّ وهو للخادم بإتيانه أجره قبل أن يجفَّ عرقه، وبعدم إلزامه ما لا يلزمه، أو تكليفه بما لا يطيق، وبصون كرامته، واحترام شخصيَّته.


وهو لعموم النَّاس بالتَّلطُّف في القول لهم، ومجاملتهم في المعاملة، وبإرشاد ضالِّهم، وتعليم جاهلهم، والاعتراف بحقوقهم، وبإيصال النَّفع إليهم، وكفِّ الأذى عنهم. وهو للحيوان بإطعامه إن جاع، ومداواته إن مرض، وبعدم تكليفه ما لا يطيق، وحمله على ما لا يقدر، وبالرِّفق به إن عمل، وإراحته إن تعب. وهو في الأعمال البدنيَّة بإجادة العمل، وإتقان الصَّنعة، وبتخليص سائر الأعمال مِن الغش .فجمع بذلك بين حميد الخلق وصدق العمل وصفاء السريرة، ومن فوائده:- محبة الله، فيقول الله - سبحانه وتعالى -:

{وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

- معية الله بالنصر والتأييد:{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون}.

- ينقذ الله العبد من المهالك ويجعل له من كل بلاء عافية ومن كل ضيق فرجاً، كما في قصة نبي الله يوسف فيقول الله - تعالى:

{إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.

- يهب الله لصاحب الإحسان فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل وبين طريق الهدى وطريق الشر، فيقول الله تعالى:

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.

- الإحسان خُلق يكسب أهله الثناء من الله ثم الثناء من عباده، ويقول الله - سبحانه وتعالى

{سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.


المراجع

- القرآن الكريم

- معجم كلمات القرآن

- تفسير القرطبى

- تفسير البغوي

- تفسير ابن كثير

- الجامع لأحكام القرآن

- التحفة الربانية فى شرح الأربعين النووية

- خلق المسلم للغزالى

- مدارج السالكين لابن القيم

- موسوعة الدرر السنية

- تاج الهداية، محمّد بن محمّد بن عبدالرزّاق الحسيني، بيروت: دار الهداية، جزء 34.

- أعمال القلوب – السهل بن رفاع العتيبى

الهوامش

[1] سورة القصص الآية 77

[2] معجم كلمات القرآن

[3] حديث شريف

[4] تفسير القرطبى

[5] ابن كثير

[6] سورة النحل ، الآية 90

[7] محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، تاج الهداية، بيروت: دار الهداية، جزء 34

[8] ابن كثير

[9] موسوعة الدرر السنية

[10] أعمال القلوب) لسهل بن رفاع العتيبي) (1/58)، بتصرُّف

[11] الإسراء: 23-24

[12] الجامع لأحكام القرآن-5/183

[13] لقمان: 14

[14] الأنعام: 151

[15] رواه البخاري (26)، ومسلم (85)

[16] البقرة:83

[17] رواه مسلم (48) مِن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

[18] التحفة الربانية في شرح الأربعين النووية)) لإسماعيل بن محمد السعدي

[19] البقرة- الآية 108

[20] رواه أحمد، والهيثمي في المجمع (8/163)

[21] ذكره المنذري في ((التَّرغيب والتَّرهيب)) (3/237) وقال: رواه الطَّبراني مِن رواية بقيَّة، وفيه راوٍ لم يُسم.

[22] خلق المسلم للغَزَالي

[23] القصص: 77

[24] النَّحل: 90

[25]الأعراف: 56

[26] رواه البخاري بلفظ: (رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) مِن حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما-. ورواه الطَّبراني في ((الأوسط)) (6/107) بلفظ: (رحم الله سهل الشِّراء، سهل القضاء، سهل التَّقاضي) مِن حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه

[27] ذكره الغزالي في إحياء علوم الدِّين

[28] رواه البخاري (471)، ومسلم (1558) مِن حديث كعب بن مالك رضي الله عنه

[29] جزء من حديث رواه البخاري (2306)، ومسلم (1601)

[30] رواه البخاري (2306)، ومسلم (1601) مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه

[31] أقاله يقيله إقالة. وتقايلا إذا فسخا البيع وعاد المبيع إلى مالكه والثمن إلى المشتري، وتكون الإقالة في البيعة والعهد. انظر: لسان العرب لابن منظور

 [32] رواه ابن حبان (11/404) (5029)،والبزار (15/374) مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وضعَّفَه الدار قطني في (لسان الميزان) في (6/100).

[33] فصِّلت: 34-35

[34]الرحمن الآية 60

[35] مدارج السَّالكين لابن القيِّم (3/139

[36] مدارج السَّالكين لابن القيِّم

[37]الإسراء- 53

[38] مدارج السَّالكين)) لابن القيِّم

[39]النَّحل: 125

[40] فتح القدير

[41] رواه الحاكم (4/257)،والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (19141) مِن حديث عبدالله بن عباس –رضي الله عنهما-. وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. ووافقه الذهبي في ((التلخيص))، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (667). ورواه عبدالرزاق في ((المصنف)) (4/493) مِن حديث عكرمة.

[42]جامع العلوم والحكم

[43] رواه البخاري (2363)، ومسلم (2244) مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه

[44] شرح مسلم

[45] رواه البخاري (3482)، ومسلم (2242) مِن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

الاحتفال بالأعياد والمناسبات .. بين التحريم والإباحة

ديسمبر 31, 2020


تعد قضية الاحتفال بالأعياد والمناسبات إحدى أبرز القضايا المتجددة؛ فمن آنٍ إلى آخر يثور الجدل حول ما يجوز وما لا يجوز للمسلم الاحتفال به من الأعياد والمناسبات. 

ومن العلماء من حصر الأعياد فى عيدي الفطر والأضحى، عيدين سنويين، ويوم الجمعة، عيدًا أسبوعيَا؛ وقيد بعدها الاحتفال بالمناسبات الأخرى، وحددها بحدود معينة لا تخالف ما كان عليه السلف، واعتبر ما زاد عليها بدعة. ومنهم من أجاز الاحتفال بغير ذلك من الأيام؛ باعتبارها أياما يجوز للمسلم الاحتفال بها، كليلة القدر، والإسراء والمعراج، والمولد النبوى، وما إلى ذلك من أيام المسلمين، إضافة إلى بعض الاحتفالات الوطنية والمناسبات الشخصية مع توسيعهم فى حدود مظاهر الاحتفال والابتهاج بالمناسبات الدينية. 

وقد استند أولئك وهؤلاء إلى نصوص وثوابت من الكتاب والسنة وسِيَر السلف الصالح، وربما تشاركوا بعضها فكانت سندا فى الرأيين على ما بين هذه الآراء وتلك  من تباين، وكتب فى ذلك من الفريقين علماء إجلاء، فضلا عن من أدلوا بدلوهم من الكُتَّاب وأصحاب المنابر الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية، وجلهم لا يعدم برهانا يستند إليه من أقوالٍ وآراءٍ لا يسهل إنكارها على أصحابها.

وفى هذا البحث سوف أحاول أن أعرض للرأيين، وما يستند إليه كل منهما، وسوف نتناول هذا البحث من خلال مباحث ثلاثة هى:

المبحث الأول: المفهوم اللغوى والاصطلاحى ( الاحتفال – العيد)

المبحث الثانى: الرأى القائل بحصر الأعياد الشرعية وتقيد مظاهر الاحتفال بالمناسبات.

المبحث الثالث: الرأى المجيز لبعض الأعياد المستحدثة الموسع فى مظاهر الاحتفال.


المبحث الأول


المفهوم اللغوى والاصطلاحى ( الاحتفال – العيد)

تعريف و معنى احتفال: لغة واصطلاحا

احتِفال: (اسم)، الجمع: احتفالات، اجتماعٌ على فرح ومسرّة.

قاعة الاحتفالات: مكان متّسع تُعقد فيه الاجتماعات، وتُقام الحفلات.

احتفال: (اسم)، اِحتفال: مصدر احتفل، اِحتَفَلَ: (فعل)، احتفلَ / احتفلَ بـ / احتفلَ لـ يحتفل، احتفالاً، فهو مُحتفِل، والمفعول مُحتفَل به، اِحْتَفَلَ الشَّعْبُ: أَقَامَ احْتِفَالاً، احتفل بالشَّخص: أكرمه واهتمّ به، اجتمع لتكريمه، اِحْتَفَلَ الْمَجلِسُ بالنَّاسِ: اِمْتَلأَ بِهِمْ، مَا احْتَفَلَ بِهِ: مَا بَالَى بِهِ، مَا اهتَمَّ بهِ، احْتَفَلَ بالأمر: عُني به[1]

تعريف ومعنى "عيد" لغة اصطلاحا:

عَيَّدَ: (فعل)، عيَّدَ يعيِّد، تعييدًا، فهو مُعيِّد، عَيَّدَ: شَهِدَ العِيدَ واحتفلَ به، عِيْد: (اسم)، عِيْد: جمع عَادَةُ

عيد: (اسم)، الجمع: أَعياد،  العِيدُ: كلُّ يوم يُحتفَلُ فيه بذكرى حادثةٍ عزيزة أو دينيَّة[2]

ومن التعريفين السابقين يمكننا القول بأن الاحتفال بالعيد هو اجتماع الناس على فرح ومسرة للاحتفال بذكرى عزيزة أو لمناسبة دينية ، ويختص المسلمون بعيدين هما عيد الفطر وعيد الأضحى، أما ما عداهما فهو محل لاختلاف الرأى من جواز أو عدم جواز تسميته بالعيد، كما أن هناك مناسبات دينية أجاز البعض الاحتفال بها ولم يجزه البعض الآخر ولكل أسانيده التى بنى عليها رأيه.



المبحث الثانى

الرأى القائل بحصر الأعياد الشرعية وتقيد مظاهر الاحتفال


يقول أصحاب هذا الرأى، بتواتر النصوص الشرعية على حصر الأعياد الزمانية في الإسلام في عيدين حوليين هما الفطر والأضحى، فلا ثالث لهما سوى العيد الأسبوعي، يوم الجمعة، وأن ما سوى ذلك من الأعياد إنما هو محدث سواء كان أسبوعيًا أم حوليًا أم قرنيًا أم غير ذلك؛ بل أن هناك من تعصبوا في رأيهم في مسألة الاحتفالات إلى حد تكفيرهم من يدعو إليها، أو يشارك فيها، فهى، بحسبهم، ليست من جوهر الدين في شيء، وإنما هى بدعةٌ محدثةٌ، لا تجوز، ولا تحل مهما كان الدافع والقصد من ورائها.

وحجتهم في ذلك أن البدعة الحسنة غير جائزة، لأنها زيادة في الدين، والزيادة في الدين كالنقص منه، والدين قد اكتمل بنزول القرآن ووفاة النبي (صلى الله عليه وسلم). 

وفي ضوء ذلك، يرى مشددوهم أن مثل هذه الاحتفالات لا تجوز بأي حال من الأحوال. وربما تستبين آرائهم فيما ذكره السيوطى فى (حسن المقصد في عمل المولد)

فيما جاء عنه عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول، ما حكمه من حيث الشرع؟ وهل هو محمود أو مذموم؟ وهل يثاب فاعله أم لا؟

فجاء جوابه:

"عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف.[3]

وقال سبط ابن الجوزي في مرآة الزمن:

حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد أنه عد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس غنم شوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة فرس ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلوى.

قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعا من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاث مائة ألف دينار، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة، فكان يصرف على هذه الدار في كل سنة مائة ألف دينار، وكان يستفك من الفرنج في كل سنة أسارى بمائتي ألف دينار، وكان يصرف على الحرمين والمياه بدرب الحجاز في كل سنة ثلاثين ألف دينار، هذا كله سوى صدقات السر، وحكت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب أخت الملك الناصر صلاح الدين أن قميصه كان من كرباس غليظ لا يساوي خمسة دراهم، قالت: فعاتبته في ذلك فقال: لبسي ثوبا بخمسة وأتصدق بالباقي خير من أن ألبس ثوبا مثمنا وأدع الفقير والمسكين.

وقال ابن خلكان في ترجمة الحافظ أبي الخطاب ابن دحية:

كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، قدم من المغرب فدخل الشام والعراق واجتاز بأربيل سنة أربع وستمائة فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي فعمل له كتاب (التنوير في مولد البشير النذير)، وقرأه عليه بنفسه فأجازه بألف دينار.

قال: وقد سمعناه على السلطان في ستة مجالس في سنة خمس وعشرين وستمائة. انتهى."

ويقول السيوطى "وقد ادعى الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني من متأخري المالكية، أن عمل المولد بدعة مذمومة، وألف في ذلك كتابا سماه (المورد في الكلام على عمل المولد)، وأنا أسوقه هنا برمته وأتكلم عليه حرفا حرفا؛ قال رحمه الله:

الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين، ويسر لنا اقتفاء أثر السلف الصالحين حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين، وطهر سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع في الدين، أحمده على ما من به من أنوار اليقين، وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين صلاة دائمة إلى يوم الدين.

أما بعـد: فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه (المولد) هل له أصل في الشرع أو هو بدعة وحدث في الدين؟، وقصدوا الجواب عن ذلك مبيناً، والإيضاح عنه معينا، فقلت وبالله التوفيق:

لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجبا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو محرما، وليس بواجب إجماعا، ولا مندوبا لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون المتدينون فيما علمت، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت، ولا جائز أن يكون مباحا لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين، فلم يبق إلا أن يكون مكروها أو حراما، وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين، والتفرقة بين حالين:

أولهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئا من الآثام، وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام سرج الأزمنة وزين الأمكنة.

والثاني: أن تدخله الجناية وتقوى به العناية حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه وقلبه يؤلمه ويوجعه لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء: أخذ المال بالجاه كأخذه بالسيف، لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهن أو مشرفات، والرقص بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد والخروج في التلاوة والذكر المشروع والأمر المعتاد غافلات عن قوله تعالى(إن ربك لبالمرصاد)، وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المنكرات المحرمات فإنا لله وإنا إليه راجعون، (بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدا).

ولقد أحسن الإمام أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب، هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم وهو ربيع الأول هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه. وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول."

هذا جميع ما أورده الفاكهاني في كتابه، المورد في حكم المولد، وأقـــول:

أما قوله: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، فيقال عليه: نفي العلم لا يلزم منه نفي الوجود، وقد استخرج له إمام الحفاظ أبو الفضل ابن حجر أصلا من السنة، واستخرجت له أنا أصلاً ثانياً، وسيأتي ذكرها بعد هذا.

وقوله: بل هو بدعة أحدثها البطالون... إلى قوله: ولا العلماء المتدينون يقال عليه: قد تقدم أنه أحدثه ملك عادل عالم، وقصد به التقرب إلى الله تعالى، وحضر عنده فيه العلماء والصلحاء من غير نكير منهم، وارتضاه ابن دحية، وصنف له من أجله كتاباً، فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه.

وقوله: ولا مندوبا لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع يقال عليه: إن الطلب في المندوب تارة يكون بالنص، وتارة يكون بالقياس، وهذا وإن لم يرد فيه نص ففيه القياس على الأصلين الآتي ذكرهما.

وقوله: ولا جائز أن يكون مباحا لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين: كلام غير مسلم، لأن البدعة لم تنحصر في الحرام والمكروه، بل قد تكون أيضا: مباحة ومندوبة وواجبة.

قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات:

البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله علبه وسلم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة.

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد:

البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة.

قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإذا دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة.

وذكر لكل قسم من هذه الخمسة أمثلة إلى أن قال:

وللبدع المندوبة أمثلة: منها: إحداث الربط والمدارس، وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول، ومنها: التراويح، والكلام في دقائق التصوف، وفي الجدل، ومنها: جمع المحافل للاستدلال في المسائل إن قصد بذلك وجه الله تعالى.

وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي قال:

المحدثات من الأمور ضربان:

أولهما: ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا، فهذه البدعة الضلالة.

والثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة.

وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: (نعمت البدعة هذه) يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.

هذا آخر كلام الشافعي.

فعرف بذلك منع قول الشيخ تاج الدين: ولا جائز أن يكون مباحا... إلى قوله: وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة إلى آخره؛ لأن هذا القسم مما أحدث، وليس فيه مخالفة لكتاب ولا سنة ولا أثر ولا إجماع، فهي غير مذمومة كما في عبارة الشافعي، وهو من الإحسان الذي لم يعهد في العصر الأول فإن إطعام الطعام الخالي عن اقتراف الآثام إحسان فهو من البدع المندوبة كما في عبارة ابن عبد السلام.

وقوله: والثاني ...إلى آخره، هو كلام صحيح في نفسه غير أن التحريم فيه إنما جاء من قبل هذه الأشياء المحرمة التي ضمت إليه، لا من حيث الاجتماع لإظهار شعار المولد، بل لو وقع مثل هذه الأمور في الاجتماع لصلاة الجمعة مثلا لكانت قبيحة شنيعة، ولا يلزم من ذلك ذم أصل الاجتماع لصلاة الجمعة كما هو واضح، وقد رأينا بعض هذه الأمور يقع في ليالي من رمضان عند اجتماع الناس لصلاة التراويح، فهل يتصور ذم الاجتماع لأجل هذه الأمور التي قرنت بها، كلا، بل نقول: أصل الاجتماع لصلاة التراويح سنة وقربة وما ضم إليها من هذه الأمور قبيح شنيع، وكذلك نقول: أصل الاجتماع لإظهار شعار المولد مندوب وقربة وما ضم إليه من هذه الأمور مذموم وممنوع.

وقوله: مع أن الشهر الذي ولد فيه ... إلى آخره جوابه أن يقال:

أولاً: إن ولادته صلى الله عليه وسلم أعظم النعم علينا، ووفاته أعظم المصائب لنا، والشريعة حثت على إظهار شكر النعم، والصبر والسلوان والكتم عند المصائب، وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة، وهي إظهار شكر وفرح بالمولود، ولم يأمر عند الموت بذبح ولا غيره، بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع، فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم دون إظهار الحزن فيه بوفاته.

وقد قال ابن رجب في كتاب اللطائف في ذم الرافضة حيث اتخذوا يوم عاشوراء مأتما لأجل قتل الحسين: لم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما فكيف ممن هو دونهم.

وقد تكلم الإمام أبو عبد الله ابن الحاج في كتابه المدخل على عمل المولد فأتقن الكلام فيه جدا، وحاصله: مدح ما كان فيه من إظهار شعار وشكر، وذم ما احتوى عليه من محرمات ومنكرات.

وأنا أسوق كلامه فصلا فصلا قال:

ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات وإظهار الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد، وقد احتوى ذلك على بدع ومحرمات جملة، فمن ذلك استعمال المغاني ومعهم آلات الطرب من الطار المصرصر والشبابة وغير ذلك مما جعلوه آلة للسماع، ومضوا في ذلك على العوائد الذميمة في كونهم يشغلون أكثر الأزمنة التي فضلها الله تعالى وعظمها ببدع ومحرمات، ولا شك أن السماع في غير هذه الليلة فيه ما فيه، فكيف به إذا انضم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم الذي فضله الله تعالى وفضلنا فيه بهذا النبي الكريم، فآلة الطرب والسماع أي نسبة بينها وبين هذا الشهر الكريم الذي من الله علينا فيه بسيد الأولين والآخرين، وكان يجب أن يزاد فيه من العبادة والخير شكرا للمولى على ما أولانا به من هذه النعم العظيمة، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد فيه على غيره من الشهور شيئا من العبادات، وما ذاك إلا لرحمته صلى الله عليه وسلم لأمته ورفقه بهم، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل خشية أن يفرض على أمته رحمة منه بهم، لكن أشار عليه السلام إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين: (ذاك يوم ولدت فيه)، فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي ولد فيه فينبغي أن نحترمه حق الاحترام ونفضله بما فضل الله به الأشهر الفاضلة وهذا منها لقوله عليه السلام (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي)، وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خصها الله به من العبادات التي تفعل فيها لما قد علم أن الأمكنة والأزمنة لا تشرف لذاتها وإنما يحصل لها التشريف بما خصت به من المعاني، فانظر إلى ما خص الله به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضل عظيم لأنه صلى الله عليه وسلم ولد فيه، فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يكرم ويعظم ويحترم الاحترام اللائق به اتباعا له صلى الله عليه وسلم في كونه كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات، ألا ترى إلى قول ابن عباس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان) فنمتثل تعظيم الأوقات الفاضلة بما امتثله على قدر استطاعتنا.

فإن قال قائل: قد التزم عليه الصلاة والسلام في الأوقات الفاضلة ما التزمه مما قد علم، ولم يلتزم في هذا الشهر ما التزمه في غيره، فالجواب أن ذلك لما علم من عادته الكريمة أنه يريد التخفيف عن أمته، سيما فيما كان يخصه، ألا ترى إلى أنه عليه السلام حرم المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة، ومع ذلك لم يشرع في قتل صيده ولا شجره الجزاء تخفيفا على أمته ورحمة بهم، فكان ينظر إلى ما هو من جهته وإن كان فاضلا في نفسه فيتركه للتخفيف عنهم، فعلى هذا تعظيم هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات إلى غير ذلك من القربات، فمن عجز عن ذلك فأقل أحواله أن يجتنب ما يحرم عليه ويسكن له تعظيما لهذا الشهر الشريف، وإن كان ذلك مطلوبا في غيره إلا أنه في هذا الشهر أكثر احتراما كما يتأكد في شهر رمضان وفي الأشهر الحرم، فيترك الحدث في الدين ويجتنب مواضع البدع وما لا ينبغي.

ارتكب بعضهم في هذا الزمن ضد هذا المعنى، وهو أنه إذا دخل هذا الشهر العظيم تسارعوا فيه إلى اللهو واللعب بالدف والشبابة وغيرهما، ويا ليتهم عملوا المغاني ليس إلا، بل يزعم بعضهم أنه يتأدب فيبدأ المولد بقراءة الكتاب العزيز، وينظرون إلى من هو أكثر معرفة بالتهوك والطرق المبهجة لطرب النفوس، وهذا فيه وجوه من المفاسد، ثم إنهم لم يقتصروا على ما ذكر بل ضم بعضهم إلى ذلك الأمر الخطر، وهو أن يكون المغني شابا لطيف الصورة حسن الصوت والكسوة والهيئة، فينشد التغزل ويتكسر في صوته وحركاته، فيفتن بعض من معه من الرجال والنساء، فتقع الفتنة في الفريقين ويثور من المفاسد ما لا يحصى، وقد يؤول ذلك في الغالب إلى فساد حال الزوج وحال الزوجة ويحصل الفراق والنكد العاجل وتشتت أمرهم بعد جمعهم.

وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع، فإن خلا منه وعمل طعاما فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، لأن ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضين، واتباع السلف أولى، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن تبع فيسعنا ما وسعهم. انتهى.

وحاصل ما ذكره: أنه لم يذم المولد، بل ذم ما يحتوي عليه من المحرمات والمنكرات، وأول كلامه صريح في أنه ينبغي أن يخص هذا الشهر بزيادة فعل البر وكثرة الخيرات والصدقات وغير ذلك من وجوه القربات، وهذا هو عمل المولد الذي استحسناه، فإنه ليس فيه شيء سوى قراءة القرآن وإطعام الطعام وذلك خير وبر وقربة.

وأما قوله آخرًا: إنه بدعة، فإما أن يكون مناقضاً لما تقدم أو يحمل على أنه بدعة حسنة كما تقدم تقريره في صدر الكتاب، أو يحمل على أن فعل ذلك خير والبدعة منه نية المولد، كما أشار إليه بقوله: فهو بدعة بنفس نيته فقط، وبقوله: ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد.

فظاهر هذا الكلام أنه كره أن ينوي به المولد فقط، ولم يكره عمل الطعام ودعاء الإخوان إليه، وهذا إذا حقق النظر لا يجتمع مع أول كلامه، لأنه حث فيه على زيادة فعل البر وما ذكر معه على وجه الشكر لله تعالى إذا أوجد في هذا الشهر الشريف سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى نية المولد فكيف يذم هذا القدر مع الحث عليه أولاً.

وأما مجرد فعل البر وما ذكر معه من غير نية أصلاً فإنه لا يكاد يتصور، ولو تصور لم يكن عبادة، ولا ثواب فيه إذ لا عمل إلا بنية، ولا نية هنا إلا الشكر لله تعالى على ولادة هذا النبي الكريم في هذا الشهر الشريف، وهذا معنى نية المولد فهي نية مستحسنة بلا شك فتأمل.

ثم قال ابن الحاج: ومنهم من يفعل المولد لا لمجرد التعظيم، ولكن له فضة عند الناس متفرقة كان قد أعطاها في بعض الأفراح أو المواسم، ويريد أن يستردها ويستحي أن يطلبها بذاته، فيعمل المولد حتى يكون ذلك سببا لأخذ ما اجتمع له عند الناس، وهذا فيه وجوه من المفاسد منها: أنه يتصف بصفة النفاق، وهو أن يظهر خلاف ما يبطن، إذ ظاهر حاله أنه عمل المولد يبتغي به الدار الآخرة، وباطنه أنه يجمع به فضة، ومنهم من يعمل المولد لأجل جمع الدراهم أو طلب ثناء الناس عليه ومساعدتهم له، وهذا أيضا فيه من المفاسد ما لا يخفى. انتهى.

وهذا أيضا من نمط ما تقدم ذكره، وهو أن الذم فيه إنما حصل من عدم النية الصالحة، لا من أصل عمل المولد.

وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل ابن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه:

أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، وإلا فلا.

قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم؟ فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى أي يوم من السنة، وفيه ما فيه.

فهذا ما يتعلق بأصل عمله.

وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة.

وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحاً بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به، وما كان حراما أو مكروهاً فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى. انتهى.

قلت: وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة، مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات.

ثم رأيت إمام القراء الحافظ شمس الدين ابن الجزري قال في كتابه المسمى (عرف التعريف بالمولد الشريف) ما نصه:

قد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين، وأمص من بين أصبعي ماء بقدر هذا- وأشار لرأس أصبعه، وأن ذلك بإعتاقي لثويبة عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له.

فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى اله عليه وسلم به فما حال المسلم الموحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يسر بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم، لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنات النعيم.

وقال الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي في كتابه المسمى (مورد الصادي في مولد الهادي):

قد صح أن أبا لهب يخفف عنه عذاب النار في مثل يوم الاثنين لإعتاقه ثويبة سرورا بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أنشد: *

إذا كان هـذا كافرا جـاء ذمـه

وتبت يـداه في الجحـيم مخـلدا

أتى أنـه في يـوم الاثنين دائـما

يخفف عنه للسـرور بأحــمدا

فما الظن بالعبد الذي طول عمره

بأحمد مسرورا ومات موحـــدا

وقال الكمال الأدفوي في (الطالع السعيد):

حكى لنا صاحبنا العدل ناصر الدين محمود ابن العماد، أن أبا الطيب محمد ابن إبراهيم السبتي المالكي نزيل قوص أحد العلماء العاملين كان يجوز بالمكتب في اليوم الذي فيه ولد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا فقيه، هذا يوم سرور، اصرف الصبيان، فيصرفنا.

وهذا منه دليل على تقريره وعدم إنكاره، وهذا الرجل كان فقيهاً مالكياً متفنناً في العلوم متورعاً، أخذ عنه أبو حيان وغيره، ومات سنة خمس وتسعين وستمائة.

(فائدة) قال ابن الحاج:

فإن قيل: ما الحكمة في كونه عليه الصلاة والسلام خص مولده الكريم بشهر ربيع الأول ويوم الاثنين، ولم يكن في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وفيه ليلة القدر ولا في الأشهر الحرم ولا في ليلة النصف من شعبان ولا في يوم الجمعة وليلتها.

فالجواب من أربعة أوجه:

الأول: ما ورد في الحديث من أن الله خلق الشجر يوم الإثنين، وفي ذلك تنبيه عظيم، وهو أن خلق الأقوات والأرزاق والفواكه والخيرات التي يمتد به بنو آدم ويحيون وتطيب بها نفوسهم.

الثاني: أن في لفظه ربيع إشارة وتفاؤلاً حسناً بالنسبة إلى اشتقاقه، وقد قال أبو عبد الرحمن الصقلي: لكل إنسان من اسمه نصيب.

الثالث: أن فصل الربيع أعدل الفصول وأحسنها، وشريعته أعدل الشرائع وأسمحها.

الرابع: أن الحكيم سبحانه أراد أن يشرف به الزمان الذي ولد فيه، فلو ولد في الأوقات المتقدم ذكرها لكان قد يتوهم أنه يتشرف بها.



المبحث الثالث

الرأى المجيز للأعياد المستحدثة الموسع فى مظاهر الاحتفال.

بينما نجد أن الرأى الآخر كان أكثر تحديدا وإن أجاز بعض ما لم يجزه القاصرون على العيدين، فلم ينكر مناسبات النصر والميلاد والاحتفال بها فيما يخص أعياد الأمة؛ استشهادا بما استشهد به أصحاب الرأى الأول فى شأن أهل المدينة حين وجدهم الرسول يحتفلون بيومين ورثوا اتخاذهما عيدًا ولكنهم (أى أصحاب الرأى الأخير) لم يروا فيه من رسول الله إنكارا لاحتفالهم به بحسب فهمهم لهذه الواقعة ..

وفى فتوة لدار الإفتاء المصرية جاء .." الأعياد سُنَّةٌ فِطْرِيَّة جُبِلَ الناس على اتخاذها، فكانوا منذ القدم يخصِّصُون أيامًا للاحتفال والاجتماع وإظهار الفرح؛ لإحياء ذكرى مُناسَباتٍ حصلت في مثل تلك الأيام، كأيام النصر وأيام الميلاد، وكان لِكُلِّ أمة أيامٌ معلومةٌ تُظهِر فيها زينتَها وتعلن سرورها وتُسرِّي عن نفسها ما يُصيبها من رَهَق الحياة وعَنَتِها، وعلى هذه السُّنَّة وَجَد النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الأنصارَ في المدينة بعد هجرته إليها يلعبون في يومين، وَرِثُوا اتِّخاذَهُما عِيدًا عن الجاهليَّة، فلم يُنكِرْ أصْلَ الفكرة، وأباح اتخاذ العيد؛ تحصيلا لمزاياه القومية والاجتماعية والدينية، ولكنه استبدل بيومي الجاهلية يومين آخرين مرتبطين بشعيرتين من أعظم شعائر الإسلام، وهما يوما الفطر والأضحى... 

والملاحظ فى هذه الفتوة التى تستند إلى الكتاب والسنة - وهما نفس ما استند إليه الرأى الأول - أنها تستند إلى واقعة أهل المدينة وهى نفسها التى اعتمد عليها الرأى الأول فى عدم الإجازة .

وفى نص الفتوة الثانية :

اطلعنا على الطلب المقيد برقم 2335 لسنة 2005م المتضمن: نقوم بالاحتفال بالمناسبات الدينية المختلفة، مثل الاحتفال بليلة القدر، والإسراء والمعراج، والمولد النبوي الشريف... إلخ، وذلك باجتماع نخبة من المشايخ والعلماء لإلقاء بعض المحاضرات الدينية لهذه المناسبات، مع إقامة بعض المسابقات والابتهالات الدينية، مع الاستعانة بسماعات خارج المسجد وداخله، وعمل زينات خارج المسجد بالأنوار، وأحيانا نقوم بتصوير الحفلة بالفيديو مع عمل جلسة خاصة للسادة العلماء عبارة عن منضدة وكراسيَّ للجلوس في مواجهة الحاضرين داخل المسجد، مع توزيع بعض المشروبات والحلويات، وتكريم حفظة ومحفظي القرآن الكريم، وعمال المساجد المجتهدين. فما رأي الدين في الاحتفال بهذه الصورة؟

الجواب: 

الاحتفال في لغة العرب: من حَفَلَ اللبنُ في الضَّرع يَحفِل حَفلًا وحُفُولًا، وتَحَفَّل واحتَفَلَ: اجتمع، وحَفَل القومُ من باب ضرب، واحتَفَلوا: اجتمعوا. وعنده حَفلٌ من الناس: أي جَمع. والمراد من الاحتفال بالمناسبات هو تجمع الناس بخصوصها.

والمناسبات إما أن تكون دينية أو دنيوية، والدينية مثل الاحتفال بالعيدين، والإسراء والمعراج، والنصف من شعبان، والمولد النبوي الشريف، وموالد آل البيت والأولياء الصالحين. والدنيوية مثل الاحتفال بيوم الميلاد، والاحتفال بيوم الأم.

والاحتفال بالمناسبات الدينية والدنيوية أمر مرغب فيه ما لم تشتمل على ما يُنهى عنه شرعًا، وأن يكون خاليًا من المحرمات؛ كالاختلاط المحرم وكشف العورات، ونحو ذلك مما لا يجوز شرعًا.

وليس في الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة، ولا صلة لهذا بمسألة البدعة التي يدندن حولها كثير من الناس؛ فإن البدعة المردودة هي ما أُحدث على خلاف الشرع؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) متفق عليه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومفهومه: أن من أَحدث فيه ما هو منه فهو مقبول غير مردود، وقد أقر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- العرب على احتفالاتهم بذكرياتهم الوطنية وانتصاراتهم القومية التي كانوا يَتَغَنَّوْنَ فيها بمآثر قبائلهم وأيام انتصاراتهم، كما في حديث الصحيحين عن عائشة- رضي الله عنها- (أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان بغناء يوم بُعاث)، وجاء في السنة (أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- زار قبر أمه السيدة آمنة في أَلْفَيْ مُقَنَّع، فما رُؤِيَ أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ). رواه الحاكم وصححه، وأصله في مسلم.


الخاتمة

من المعروف في الفقه الإسلامي أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص بتحريمها أو كراهيتها. وليس في الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة يحتفل بها، ولا صلة بين الاحتفاء بهذه المناسبة وبين البدعة ؛ فالبدعة المردودة هي ما أُحدث على خلاف الشرع، لقول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، أي أن من أحدث فيه ما هو منه فهو مقبول غير مردود. 

وقد أقر النبي العرب على احتفالاتهم بذكرياتهم وأيام انتصاراتهم في الجاهلية، وتغنيهم في مناسباتها بمآثر قبائلهم. ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان بغناء يوم بُعاث)، ولم يذكر رواة الحديث أنه أنكر عليها هذا.

ومن المعروف أيضاً أن البدع تكون في العبادات لا العادات. وحتى البدع التي تكون في العبادات ليست كلها من الضلالات، وفقاً لرأي الإمام الشافعي. فقد روى البيهقي بإسناده في (مناقب الشافعي) عن الشافعي أنه قال: "المحدثات من الأمور ضربان:

أحدهما: ما أُحدث مما يخالف كتاباً أو سنةً أو أثراً أو إجماعاً فهذه البدعة الضلالة. والثاني: ما أُحدث من الخير لا خلافَ فيه لواحدٍ من هذا، وهذه محدثةٌ غير مذمومة. وقد قال عمر (رضي الله عنه) في قيام شهر رمضان (يعني صلاة التراويح): نعمت البدعةُ هذه، يعني أنها محدثةٌ لم تكن، وإذا كانت فليس فيها ردٌّ لما مضى".

فلو أخذنا الاحتفال بمولد النبي (صلى الله عليه وسلم) كمثال على المناسبات الإسلامية التي أجازها كثير من أعلام المسلمين، نجد أن الإمام السيوطي، ذهب في كتابه (الحاوي للفتاوي) إلى أن الاحتفال بمناسبة مولد النبي بدعة حسنة لا شيء فيها. يقول في رسالته (حسن المقصد في عمل المولد): "عندي أن أصل عمل المولد، الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن، ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) وما وقع في مولده من الآيات، ثم يُمدُّ لهم سماطٌ يأكلونه، وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها؛ لما فيها من تعظيم قدر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف".[4]

وبمثل ما قاله السيوطي قال العز بن عبد السلام، فرأى أن ذلك وإن لم يُعهد في عصر النبي (صلى الله عليه وسلم) والرعيل الأول فإنه من البدع المندوبة. يقول: "وهو (أي المولد)، وما يكون فيه من طعام، من الإحسان الذي لم يُعهد في العصر الأول، فإنَّ إطعامَ الطعامِ الخالي من اقتراف الآثام إحسانٌ، فهو من البدع المندوبة".

والقارئ لكتب التراث الإسلامي يستطيع أن يستخلص منها العديد من النصوص التي تبيح الاحتفالات بالمناسبات الدينية وغير الدينية. ومن الذين أفتوا بجواز هذه الاحتفالات علماء معروفون بطول قاماتهم العلمية، من بينهم: ابن حجر العسقلاني، وابن كثير، وتقي الدين السبكي، وأبو شامة المقدسي، وشمس الدين السخاوي، وابن حجر الهيثمي، والشوكاني، والقسطلاني.

ومن الطريف أن ابن تيمية، الذي يرى الكثيرون أنه بلغ الغاية في التعصب، وأن في آرائه شدة زائدة، كان كلامه ليّناً في قضية الاحتفالات، على عكس ما هو متوقع منه. ففي الاحتفال بمولد النبي (صلى الله عليه وسلم)، التي يبدّعها سلفيو اليوم، نراه في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) يؤكد على أن الاحتفال بمولده (صلى الله عليه وسلم) فيه أجر عظيم لفاعله إذا حسن قصده. يقول: "وكذلك ما يُحدثه بعض الناس، إما مضاهاةً للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبةً للنبي وتعظيماً له. والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع... واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خيرٌ لاشتماله على أنواع من المشروع، وفيه أيضاً شرٌّ من بدعة وغيرها... فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجرٌ عظيم، لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد".

وعلى العكس مما ذكرناه فى رأى الموسعين، هناك من يتعصب في رأيه في مسألة الاحتفالات إلى درجة تكفير من يدعو إليها أو يشارك فيها أو يؤمن بأنها ليست من جوهر الدين في شيء، ويقسم أنها بدعةٌ محدثةٌ لا تجوز ولا تحل مهما كان الدافع والقصد من ورائها. وحجتهم في ذلك أن البدعة الحسنة غير جائزة، لأنها زيادة في الدين، والزيادة في الدين كالنقص منه، والدين قد اكتمل بنزول القرآن ووفاة النبي (صلى الله عليه وسلم). وفي ضوء ذلك، يرى متشددو السلفية اليوم أن مثل هذه الاحتفالات لا تجوز بأي حال من الأحوال.

ومما سبق يمكننا أن نوجز القول فى الآتى :

- المناسبات إما أن تكون دينية أو دنيوية، فأما الدينية فمثل الاحتفال بالعيدين، والإسراء والمعراج، والنصف من شعبان، والمولد النبوي الشريف، وموالد آل البيت والأولياء الصالحين. والدنيوية مثل الاحتفال بيوم الميلاد، والاحتفال بيوم الأم.

- يرى بعض العلماء أن الاحتفال بالمناسبات الدينية والدنيوية أمر مرغب فيه ما لم تشتمل على ما يُنهى عنه شرعًا، وأن يكون خاليًا من المحرمات؛ كالاختلاط المحرم وكشف العورات، ونحو ذلك مما لا يجوز شرعًا.

- وإنه ليس في الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة، ولا صلة لهذا بمسألة البدعة ؛ فإن البدعة المردودة هي ما أُحدث على خلاف الشرع .

- يرى البعض الآخر بأنها ليست من جوهر الدين في شيء، و أنها بدعةٌ محدثةٌ لا تجوز ولا تحل مهما كان الدافع والقصد من ورائها. وحجتهم في ذلك أن البدعة الحسنة غير جائزة، لأنها زيادة في الدين، والزيادة في الدين كالنقص منه، وفي ضوء ذلك يرون أن مثل هذه الاحتفالات لا تجوز بأي حال من الأحوال.

- اختلفت أقوال العلماء فى إقرار الرسول عليه الصلاة والسلام العرب على احتفالهم بذكرياتهم الوطنية والقومية.

المراجع :

- القرآن الكريم

- صحيح البخارى للإمام محمد بن إسماعيل البخاري– ط بيروت 1994– دار ابن كثير

- حسن المقصد في عمل المولد للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي

- اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيميه

- فتح الباري شرح صحيح البخاري (ط. السلفية) لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني

- فتاوى دار الإفتاء المصرية

الهوامش:

[1] مجم المعانى الجامع .

[2] معجم المعانى الجامع

 [3] حسن المقصد في عمل المولد للإمام السيوطى

[4] محمد عبد القادر الفقّي– مقال – العربى الجديد 2015