الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الملقب بالصادق الأمين، سيدنا ونبينا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين.. أما بعد:
فلقد منَّ الله علينا بنعمة الإسلام الذى تضمن شرائع عدة لم تفصل بين مسائل العقيدة والعبادة وبين حياة وسلوك الفرد والجماعة، وإنما حفلت هذه الشرائع بما يضمن تربية النفس البشرية تربية سوية، قوامها الخلق الفاضل، ولأن الأخلاق الفاضلة لابد لها من ضابط يقومها ويدعم نشاطها؛ فإن ذلك الضابط، هو: الإيمان، فلا مكان للأخلاق بدون عقيدة حتى يشعر الإنسان بأنه إنما يمثل دينه الذي يؤمن به في كل سلوك يأتيه. فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أكمْلُ المؤمنين أحسنُهم خُلُقًا [1].
فالأخلاق وإن كانت طبيعة فطرية، إلا أنها معرضة للاختبار دائما، إن لم يكن بشواغل الحياة الدنيا فبالافتتان بالأهواء والشهوات وما ينحرف بها عن طريق الحق، لهذا بيَّن الحديث السابق ما بين الإيمان وحسن الخلق من ترابط، فالإيمان له من التأثير ما ليس لأية قوة أخرى داخلة في نفس الإنسان أو خارجة عنها.. والأخلاق في الإسلام ذات طابع شمولي فهى تشمل فكر الإنسان واعتقاده ونفسه وسلوكه، فمن أخلاق الفكر: تحري الحق، والإنصاف، والتجرد والحياد...، والصبر على التدبر والتفكر وكلها أخلاق ترتبط بفكر الإنسان، ومن أخلاق الاعتقاد: عدم تتبع الأوهام والخرافات والتقليد الأعمى.. إلى غير ذلك، وأما حب الحق والخير والشجاعة والعفة وعلو الهمة والجود فأخلاق تتصل بنفس الإنسان، وأما ما يتصل بالسلوك الظاهر من أخلاق فكثيرة.
وأمهات الأخلاق ترجع إلى خلق أصيل هو الصدق ذلك الخلق الذي يُعَدُّ ضرورة اجتماعية، لا يمكن لمجتمع أن يستغني عنه، ومتى أهمل هذا الخلق في مجتمع ما، فترقب نهاية له مأساوية بشعة.. وعلى قدر درجة ذلك الإهمال يكون تفكك المجتمع وتصارع أفراده ونهب مصالح بعضهم، ثم يبدأ انهيار هذا المجتمع وينتهي بالدمار.
ولنا أن نتخيل مجتمعًا انعدم فيه خُلُق الصدق كيف تكون الثقة بين أفراده سواءً بالعلوم والمعارف أو الأخبار أو ضمان الحقوق والعهود والوعود والمواثيق أو الدعاوي والشهادات؟
لقد جعل الإسلام من الصدق أساسا من الأسس التي يقوم عليها بناء المجتمع الإسلامي، ووضع قواعد لتربية هذا المجتمع على الصدق واتخذ كل الوسائل الكفيلة لغرس هذا الخلق العظيم في نفوس أفراده جميعًا صغاره وكباره، رجاله ونسائه، وجعل فضيلة (الصدق) جامعة ومرجعًا للأخلاق الفاضلة، ورتب عليها آثارًا حميدة في حياة الفرد والمجتمع بل و الحياة الآخرة، وفى هذه الدراسة نتناول الصدق من حيث:
- المفهوم اللغوى والاصطلاحى
- الصدق فى القرآن
- أسس الصدق
- فضائل الصدق وخصائصه
- أثر الصدق فى حياة الفرد والمجتمع
- الخاتمة
أولاً- المفهوم اللغوى والاصطلاحى
الصدق لغةً:
جاء فى معجم المعانى أن: صدَّقَ / صدَّقَ بـ / صدَّقَ على يصدِّق، تصديقًا وتصداقًا ، فهو مُصدِّق، والمفعول مُصدَّق.
صدَّق فلانًا/ صدَّق بفلان: اعترف بصدق قوله آمن به وأيدّه، ضدّ كذَّبه
صَدَّق على الأمرِ: أَقرَّه
صَدَّقَ أَقْوَالَهُ: اِعْتَبَرَهَا صَحِيحَةً مُطَابِقَةً لِلْحَقِيقَةِ
لاَ يُصَدِّقُهُ أَحَدٌ: لاَ يَأْمَنُ قَوْلَهُ أَحَدٌ، والصدق ضد الكذب.
الصدق اصطلاحًا:
الصدق ضدُّ الكذب، صَدَقَ يَصْدُقُ صَدْقًا وصِدْقًا وتَصْداقًا، وصَدَّقه: قَبِل قولَه، وصدَقَه الحديث: أَنبأَه بالصِّدْق، ويقال: صَدَقْتُ القوم. أي: قلت لهم صِدْقًا وتصادقا في الحديث وفي المودة [2]
الصدق: (هو الخبر عن الشيء على ما هو به، وهو نقيض الكذب) [3].
وقال الباجي: (الصدق الوصف للمخبَر عنه على ما هو به.) [4]
وقال الراغب الأصفهاني: (الصدق مطابقة القول الضمير والمخبَر عنه معًا، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقًا تامًّا.) [5]
الصدق: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معا، ومتى انخرم شرط من ذلك لا يكون صدقا تامًا..
والصدِّيق: الرجل الكثير الصدق.
وقيل: مَنْ لم يصدر منه الكذب أصلا.
وقيل: مَنْ لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق. وقيل: من صدق بقوله واعتاده، وحقق صدقه، قال تعالى في سورة إبراهيم:{إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّ} [6]، وقال تعالى:{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [7].
فالصديقون: قوم دون الأنبياء في الفضيلة، ولكن درجتهم تأتي درجة النبيين[8].
وأصل الصدق في الأقوال سواء كانت ماضية أو مستقبلة ولكنه يتعدى ويكون في الأعمال. لذا جاء في أحد تعاريف الصدق أنه:(هو التزام الحقيقة قولاً وعملا).[9] وعليه يمكن القول بأن الصدق هو: تطابق العقيدة والقول والعمل وتوافق ذلك مع الواقع والحقيقة.
ثانيا- الصدق في القرآن الكريم
يقول الله عز وجل واصفًا نفسه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [10] ويقول {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [11] وقد فسر المفسرون الآية بأنه لا أحد أصدق من الله عز وجل في حديثه وخبره ووعده [12].
فكل ما قيل في العلوم والأعمال مما يناقض ما أخبر به فهو باطل لمناقضته للخبر الصادق اليقين، فلا يمكن أن يكون حقا[13]، وهذا الاستفهام إنكاري يدل على أنه ليس هناك من أصدق من الله عز وجل.
وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخصص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فقال: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} [14] ، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [15]، فهم أهل الرفيق الأعلى،{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}، ولا يزال الله يمدهم بنعمه وألطافه، ويزيد إحسانا منه وتوفيقا، ولهم مزية المعية مع الله، فإن الله تعالى مع الصادقين، ولهم منزلة القرب منه؛ إذ درجتهم منه ثاني درجة النبيين، وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم: من الإيمان، والإسلام، والصدقة، والصبر وبأنهم أهل الصدق فقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّين} [16] إلى قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة، وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان.
وقسم سبحانه الناس إلى صادق ومنافق، فقال:{لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}. [17]
والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما يحارب الآخر، وأخبر سبحانه أنه في القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه، فقال تعالى:{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [18] وقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ* لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}[19] .
فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله، وعمله وحاله؛ فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال؛ كاستواء السنبلة على ساقها، والصدق في الأعمال: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة؛ كاستواء الرأس على الجسد، والصدق في الأحوال: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع، وبذل الطاقة.
فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق، وبحسب كمال هذه الأمور فيه، وقيامها به تكون صدِّيقِيَّتُه، ولذلك كان لأبي بكر الصديق ذروة الصديقية، حتى سمي الصديق على الإطلاق، والصديق أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول (ص)، مع كمال الإخلاص للمرسل.
قد أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأله أن يجعل مدخله على الصدق، فقال: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [20]
وأخبر عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه سأله أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، وبشر عباده أن لهم قدم صدق، ومقعد صدق، فقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [21]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [22]
فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، ومقعد الصدق، وقدم الصدق، وحقيقة الصدق في هذه الأشياء هو الحق الثابت المتصل بالله، الموصل إلى الله، وهو ما كان به وله من الأعمال والأقوال. وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.
وقد وصف الله عز وجل رسوله بالصدق. يقول الله عز وجل: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} فوصف الأنبياء وذريتهم بأنه أعطاهم لسان صدق.
ويقول: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}[24]. فوصف إسماعيل بأنه كان صادق الوعد، وقال لنبيه إدريس عليه السلام: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}[25].
ثالثا : أسس الصدق
أسس الصدق النفسية وانبثاقه وتأصله في النفس:
يقصد بالأسس تلك الصفات التي متى وجدت في نفس إنسان فإنه أصبح من اليسير عليه أن يتحلى بفضيلة الصدق، ومن أهم هذه الأسس:
1- محبة الحق: حيث يتولد الشعور النفسي بأن الحق هدف أسمى يسعى إليه الإنسان، ويبذل جهده في الوصول إليه، لأنه قوام الحياة كلها فيعشق الحق وتسري محبته في نفسه. أما جحود الحق مع العلم بأنه حق فذلك انحراف خلقي قبيح، والعوامل النفسية الدافعة لهذا الجحود كثيرة، وكلُّها لا تعدو أن تكون من قبيل الأهواء الجائحة[26].
وكذلك الذي يُنْكِرَ ذوي الفضل، ويجحد علم أصحاب العلم، ولا سيما إذا كان ذلك يُفْضي إلى الإضرار بمصالح ذوي الفضل والعلم، إنه لا يفعل شيئًا في ذلك إلا من حُرِم عماد الأخلاق الكريمة، وسقط في رذيلة كبرى من الرذائل الخلقية، هي رذيلة جحود الحق وعدم الاعتراف به والإذعان له.
2- ومنها الجرأة والصراحة: فإن الشجاع صدوق صريح لا يعرف المداراة والمداهنة فلا يحتال ولا يخادع ولا يكذب.
3- ومنها الأنفة ونبل النفس: فإن الإباء يدعو إلى أن يصون المرء كرامته من الدنايا، وينزهها عما لا يليق، حتى تكون نفسه نبيلة الغاية كريمة السجايا.
وأما الإيمان فهو الذي تنبثق فضيلة الصدق منه؛ إذْ إن الإيمان بالله شهيد على استقامة حياته ظاهرًا وباطنًا علانية وسرًا.
ويتأصل الصدق في النفس إذا تذكر الإنسان الآخرة، وما يكون فيها من جزاء رغبة في ثواب الله، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة.
رابعا- فضائل الصدق وخصائصه
1- الصدق رأس الفضائل، وأجمل الصفات الحميدة التي يتحلى بها الإنسان وتزيده في العلم هيبة ووقارًا. إذ به تُنَال الثقة وتُكْسب الثروة ويَطيب العيش. والصدق إحدى الضروريات التي يتوقف عليها نظام العالم بأسره. ألا ترى أنه بالصدق تثبت الحقوق، وتحفظ الأرواح. ويتم النظام، ويعيش الناس في أمان وسلام، ولولاه لانتزعت ثقة الناس بعضهم من بعض، ولما وصل إليهم شيء من الحقائق في العلوم والأديان.
ألا ترى أن الرجل الصادق يكون دائمًا موضع الثقة ومحل الأمانة مبجلاً محترمًا مهما كانت درجته. لأن الصادق لا يكون خائنًا، ولا مختلسًا، ولا موزرًا، ولا نمامًا، ولا مخادعًا، ولا غشاشًا.
فإذا عاملت رجلاً صادقًا فأنت في مأمن على مالك وعرضك. ويكون هو على يقين من رغبة الناس في معاملته. فالتاجر لا يعامله الناس إلا إذا اشتهر عنه الصدق في المعاملة. والصانع ينصرف عنه عملاؤه إذا لم يصدق في مواعيده. والطبيب لا يقصده أحد إلا إذا وثق به الناس وكان صادقًا، والصدق من أهم الأسس، بل هو الأساس المتين الذي تقوم عليه المجتمعات. ولولاه ما بقى مجتمع. ذلك لأنه لابد للجميع من أن يتفاهم أفراده بعضهم مع بعض. ومن غير التفاهم لا يمكن أن يتعاونوا.
والدليل على ضرورة الصدق هو أن أغلب المعلومات التي وصلت إلينا بالسماع أو بالقراءة مبناها الصدق. وعليها يعتمد الإنسان في معاملاته وتصرفاته. فلو كانت مكذوبة لكانت الأعمال المبنية عليها خطأ وخللاً. ولما وصل إلينا من العلم إلا القليل، ومن أجل هذا عُد الصدق أساسًا من أسس الفضائل، وعنوانًا لرقي الأمم وعزتها.
ويُعد خلق (الصدق) عماد الأخلاق ومرجعًا لأمهاتها، حيث ترى الإنسان الصادق يتصف دائمًا بالفضائل والأخلاق فتجده صريحًا لا يرائي، مستقيمًا غير متذبذب، كريمًا حازمًا، أمينًا، قنوعًا، رحيمًا، بارِّا، صابرًا، عفيفًا، متواضًعا، واضحًا، عاملاً، عادلاً، بعيدًا كل البعد عن الغش والغدر والمكر.. أما الإنسان الكاذب فتجده بعكس ذلك.
فالصدق ضرورة لبناء الشخصية، وفضيلة من فضائل السلوك الحضارية ذات النفع والأثر العظيمين.
2- الصدق يهدي إلى الإيمان وإلى كل خير يقول: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عنه الله صديقًا وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا [27].
فدل هذا الحديث على أن الصدق يهدي إلى البر، والبر كلمة جامعة تدل على كل وجوه الخير، ومختلف الأعمال الصالحات، مما هو زائد على فعل الواجبات وترك المحرمات من الأمور التي تقتضيها مرتبة التقوى.
ومن كان صدوقًا خُلُقه الصدق فإنه لا يمكن أن يكون منافقًا، لأن الكذب هو العماد الأول للنِّفاق، والصادق إما أن يؤمن حقًا ويعلن إسلامه بصدق، وإما أن يتوقف حتى تتبيَّن له الحقيقة، فخلق الصدق يمنعه من أن يظهر الإيمان كذبًا، ويبطن الكفر، كما يمنعه من جحود الحق بعد معرفته.
3- الصدق خلق قابل للاكتساب والترسيخ، ففي الحديث أيضًا دلالة على أن خُلق الصدق في حياة الإنسان قابل للاكتساب، وقابل للتنمية والترسيخ، عن طريق التدريب اعملي المقترن بالإرادة الجازمة، فمِنْ مظاهر الإرادة الجازمة تحري الصدق في الأقوال كلها، وفي مختلف وسائل التعبير العمَلية. والذي يتحرَّى الصِّدْق لا يسمَحُ لنفسه بأن يلقي كلامًا جزافًا دون تروٍّ ولا بصيرة، ولا يسمح بأن يتبع ما ليس له به علم، فيحكم بالظنون التي ليس لها ما يدعمها ويؤيدها من الأدلة الكافية للإثبات أو للنفي، ولا يسمح لنفسه بأن يرائي أو ينافق في أعماله لأنه يحرص على الصدق ويتحرى بإرادته الجازمة الصدْق في أقواله وأعماله، وعندئذ يكون صدِّيقًا، وهذا ما بينه الرسول r بقوله في الحديث: "وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا".
وجاء في رواية أخرى: "ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا".
4- الصدق أحد أسباب دخول الجنة: فعن عبادة ابن الصامت رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم»[28].
فجل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصدق أحد عناصر ستة مَنْ تحلي بها دخل الجنة، وفي هذا ترغيب بالتحلي بخلق الصدق.
5- لا يكون المؤمن كذابًا: قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[29].
وعن صفوان بن سليم: "أنه قيل لرسول الله: أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: نعم. فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم. فقيل: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا"[30].
فدلت الآية على حصر افتراء الكذب بالذين لا يؤمنون، أما الكذبات العارضات في حياة الإنسان، التي لا تكون افتراء مدبرًا مقصودًا، والتي لا تكون من خلق متأصل ثابت، فربما تقع من المؤمن.
وكذلك دل الحديث على أن المؤمن لا يكون كذابًا، أي: لا يصل إلى مستوى في تحري الكذب يوصف فيه بأنه كذاب، أما الكذبات العارضات فليس في الحديث ما يدل على أنها لا تكون من المؤمن، وذلك لأن (كذاب) صيغة مبالغة تدل على تمكن خلق الكذب في نفسه. فافتراؤه وافتعاله عن إصرار وتعمد إنما يفعله الكذابون الذين لا يؤمنون فتبيَّن تلازم الإيمان والصدق.
6- حصول الصادقين على معية الله ومنزلة القرب منه: قد أمر الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين وخصص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فقال:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [31].
ولهم منزلة القرب منه، إذ درجتهم تأتي درجة النبيين، أثنى عليهم بأحسن أعمالهم من الإيمان والإسلام، والصدق والصبر وبأنهم أهل الصدق، فقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[32]، وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة، وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان.
خامسا - أثر الصدق في حياة الفرد والمجتمع
الصدق يورث التقوى والمغفرة والأجر العظيم، لقد حث الله عز وجل المؤمنين على الالتزام بالصدق وأثنى عليهم يقول الله تعالى: {يأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[33]، ويقول: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ}[34]، وهؤلاء ممن قال عنهم: {أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}، ويقول: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}[35]. ففي الآية الأولى يحث الله عز وجل عباده الصالحين المؤمنين بأن يصاحبوا الصادقين، وذكر قبله التقوى:{اتَّقُوا اللَّهَ} ويفهم من هذا أن التزام الصدق يورث التقوى في الإنسان، ويؤكد ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[36].
وفي الآية الثانية ذكر الله عز وجل أنه وعد الصادقين المغفرة والأجر العظيم، ماذا يريد المؤمن غير هذا؟ المغفرة من الله عز وجل والأجر العظيم كان يكفي له أن يغفر ذنوبه، لكن عطاء الله عز وجل لا يقف عند هذا فإنه أعد للمؤمنين الصادقين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولو وضعنا أمام هذه ما ورد في الحديث أن الصدق ينجي والكذب يهلك لاتضح لنا جليًا أن الكذب فعل يهلك الإنسان، في دينه ودنياه.
الصدق أساس في تقوية القيم الروحية وتزكية النفوس البشرية وتطهير القلوب والرقي بالأمم إلى الفضيلة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله: بما يعرف المؤمن؟ قال: "بوقاره، ولين كلامه، وصدق حديثه"[37].
وفي الحديث: "إن أهل الجنة كل عين هين سهل طلق".
وقال بعض الحكماء: الصدق أزين حلية والمعروف أربح تجارة والشكر أدون نعمة. وتفشي خلق الصدق بين الناس ينقي النفوس من الشوائب والرذائل والدنس، قال عمر بن الخطاب: "أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم أسمًا فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم خلقًا، فإذا اختبرناكم فأحبكم إلينا أصدقكم حديثًا."
* ظهور علامات الصدق في وجه الصادق:
فالصادق تظهر علامة صدقه على وجهه وصوته، فكان رسول الله يتحدث إلى من لا يعرفه، فيقول: والله ما هذا بوجه كذاب ولا صوت كذاب. ولا شك أن أهمية الصدق تؤثر على الصادق كما تؤثر على المخاطب مما يحمله على قبول قول المتكلم الصادق واحترامه.
* الصدق فيه النجاة:
لقد كانت قصة المخلفين الثلاثة من أشهر القصص ومثلاً بالغًا لأروع الصور في صدق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحد أبطالها كعب بن مالك، والثاني: مرارة بن الربيع، والثالث: هلال بن أمية، والقصة بإيجاز هي: في غزوة تبوك تخلف ثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق هم الثلاثة المذكورون آنفًا فلما رجع رسول الله إلى المدينة، جاءه المخلفون فاعتذروا إليه فقبل عذرهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وجاءه كعب بن مالك فلما سلم على رسول الله تَبَسَّمَ المغضب، وقال كعب: ثم قال: تعال. فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت، لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه، وإني لأرجو فيه عقابي من الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر من حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك" وفعل مثل ما فعل كعبٌ مرارةُ بن الربيع، وهلالُ بن أمية، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلام هؤلاء الثلاثة ولبثوا على ذلك خمسين ليلة لا يكلمهم أحد من الصحابة حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فماذا كان جزاء صدق هؤلاء الثلاثة؟ لقد نزل الوحي بتوبتهم، وأصبحت قصتهم قرآنا يتلى، وتسارع الصحابة يحملون بشرى هذه التوبة إلى كعب بن مالك فقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور. قال: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا، بل من عند الله» فقلت: يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، وأنزل الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[38]
ومما ورد في سير التابعين هذا الأثر:
كان ربعي بن حراش العبسي الكوفي صدوقًا ثقة، ذكر عند أهل السير أنه من خيار الناس، لم يكن يكذب كذبة قط، وهو من رجال السنة، وله موقف رائع مع الحجاج الذي كان يأخذ بالظنة، كان صدقه منجاة أنقذ الله به ولديه من بطش الحجاج وتعسفه. قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا سفيان، قال: ذكرت ربعي، وتدرون من ربعي؟ كأنه ربعي من أشجع، زعم قومه أنه لم يكذب قط فسعى به ساع إلى الحجاج بن يوسف، فقالوا: ههنا رجل من أشجع زعم قومه أنه لم يكذب قط، وأنه سيكذب لك اليوم، فإنك ضربت على ابنيه البعث، وهما في البيت فغضب، فبعث إليه فإذا شيخ منحنٍ، فقال له: ما فعل ابناك؟ قال هما هذان في البيت، قال: فحمله وكساه وأوصى به خيرًا [39].
وقال ابن خلكان: (يقال عن ربعي بن خراش العبسي الكوفي أنه لم يكذب قط، وكان له ابنان عاصيان زمن الحجاج، فقيل للحجاج، إنَّ أباهما لا يكذب قط، لو أرسلت إليه فسألته عنهما؟ فأرسل إليه، فقال: أين ابناك؟ فقال: هما في البيت، قال: قد عفونا عنهما لصدقك).
* الصدق يؤدي إلى الخير:
قال تعالى:{فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}[40] .
* الصدق ينجي العبد من أهوال القيامة:
قال تعالى:{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [41]
* الصدق يورث منازل الشهداء:
فعن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه"[42].
*والصدق يورث الطمأنينة والراحة النفسية:
فعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم "دع ما يريبك إلى ما لا ريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة." [43]
* في الصدق البركة:
إن الصدق له آثاره الحميدة في تعامل الناس بيعًا وشراء وإجارة، هذه الآثار التي تؤتي ثمارها في الدنيا بالنماء والبركة، وتؤتي ثمارها في الآخرة بالثواب والأجر، وعلى النقيض من ذلك يكون الكذب ممحقة للبركة ومناطا للعقاب.
عن حكيم بن حزام أن النبي قال: "البيعان بالخيار ما لا يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما." [44]في الصدق سعادة المجتمع والمحبة بين الناس والشعور بالثقة المتبادلة:
ليس الصدق فرعا من الشجاعة الأدبية فحسب، ولكنه ثمرتها، وهو فوق ذلك ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية لا تستقيم إلا به.
إن من آثار الصدق ونتائجه في المجتمع إشاعته المحبة بين الناس حيث يشعر أفراد المجتمع بالثقة المتبادلة ويرسي أسس التعاون الهادف بين الناس، ويساعد على نشر الفضائل وتقدير ذويها، ويجعل للحق هيبة في المجتمع، تحد من مجاراة المنحرفين ومداهنة المنافقين.
تسعد الجماعة وتنتظم شؤونها على قدر احتفاظها بفضيلة الصدق، فالمعاملات: كالبيع والإجارة والقرض والشركة لا يتسع مجالها ويستقيم سيرها إلا أن تديرها لهجة صادقة.
والأمة التي تسود فيها فضيلة صدق الحديث، حتى يكون القائم بأي عمل موضع ثقة الجمهور، تتقدم حالتها الاقتصادية، ولا يجد عدوها الوسيلة إلى مزاحمتها ما دامت جادة صادقة.
والصداقات التي تجعل أفراد الأمة كالجسد الواحد، إنما يشتد رباطها على قدر ما يكون لهؤلاء الأفراد من الاحتفاظ بصدق الحديث والتعامل.
وقد يكون للكاذب صديق من صنف أصدقاء المنفعة، ولكنه لا يستطيع أن يتخذ من إخوان الفضيلة صديقًا حميمًا.
فالذي يستهين بالكلمة الكاذبة، يطلق بها لسانه، يؤذي نفسه، ويرهق المجتمع خللاً وفسادًا، فالكاذب لا يعد عضوا أضل فقط، وإنما هو عضو يحمل دما مسمومًا لا يلبث أن يسري إلى الأعضاء المتصلة به فيؤذيها.
في الصدق الشعور بالمسئولية والوقوف مع الحق:
للصدق أثار أخروية في شعور المسلم بمسئوليته ووقوفه مع الحق والتزامه نهجه، طاعة لله، وتقربا إليه فيكون أهلا لرعاية الله وتأييده، جديرًا بها، وبالفوز والنعيم في الدار الآخرة، فقد أمر الله أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}[45]
في الصدق الإيمان، ولا يجتمع الإيمان مع الكذب:
قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.}[46]
بالصدق تتذلل الصعوبات:
وذلك كلما تحرى الإنسان الصدق في المواقف المختلفة ذللت له الصعوبات التي تواجه أهل الصدق ثم يعتاد الصدق حتى يكون صدِّيقًا.
الصدق أعظم وسام يمنح من الأصدقاء:
فإن اختيار الأصدقاء الأوفياء يعصم من مفسدة الكذب. روى الترمذي بإسناد صحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" [47]
لقد صحب أبو بكر الصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وسبق إلى الإيمان به، وصدقه إذ كذبه الناس في الإسراء والمعراج، ورافقه في الهجرة وفي الغار وفي المشاهد كلها إلى أن مات فكان أعظم وسام منحه له صلى الله عليه وسلم أن سماه صديقا.
الخاتمة
وأخيرا: فإن الصدق مورث للتقوى والمغفرة والأجر العظيم، ولقد حث الله عز وجل المؤمنين على الالتزام به وأثنى عليهم حين قال:{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، فهو أساس في تقوية القيم الروحية وتزكية النفوس البشرية وتطهير القلوب والرقي بالأمم إلى الفضيلة، ولا يقتصر فضل الصدق على الدنيا وإنما يمتد لتكون له آثار أخروية فشعور المسلم بمسئوليته ووقوفه مع الحق والتزامه نهجه، طاعة لله، وتقربا إليه يجعله أهلا لرعاية الله وتأييده، جديرًا بها، وبالفوز والنعيم في الدار الآخرة، فقد أمر الله أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}
المراجع
1- القرآن الكريم
2- لسان العرب لابن منظور
3- حلية الأولياء – لأبى نعيم
4- سيرة ابن هشام - عبد الملك بن هشام
5- الوجيز فى الأخلاق الإسلامية وأسسها - لعبد الرحمن الميدانى
6- تفسير ابن كثير
7- بصائر التمييز - الفيروز آبادي مجد الدين
8- إخلاص المسلم – محمد سعيد معيض
9- تيسير الكريم الرحمن - عبدالرحمن بن ناصر السعدي
10- الواضح في أصول الفقه - محمد سليمان عبد الله الأشقر.
11- أحكام الفصول للباجى
12- سنن الترمذى - للترمذى
الهوامش:
[1] أخرجه الترمذي بإسناد صحيح.
[2] لسان العرب – لابن منظور
[3] الواضح في أصول الفقه - لابن عقيل
[4] إحكام الفصول- للباجي
[5] الذريعة إلى مكارم الشريعة)) للراغب الأصفهاني
[6] سورة مريم: الآية 41.
[7] سورة النساء: الآية 69.
[8] بصائر ذوي التميز: (3/379).
[9] أخلاص المسلم، د/ محمد سعيد معيض: (ص61).
[10] سورة النساء: الآية 122.
[11] سورة النساء: الآية 87.
[12] انظر «تفسير ابن كثير» (1/457).
[13] «تيسير الكريم الرحمن»: (1/119).
[14] سورة التوبة: الآية 119.
[15] سورة النساء: الآية 69.
[16] سورة البقرة: الآية 177.
[17] سورة الأحزاب: الآية 24.
[18] سورة المائدة: الآية 119.
[19] سورة الزمر: الآيات 33-35.
[20] سورة الإسراء: الآية 80.
[21] سورة يونس: الآية 2.
[22] سورة القمر: الآيتان 54، 55.
[23] سورة مريم: الآية 50، وانظر بصائر ذوي التمييز: (جـ3).
[24] سورة مريم: الآية 54.
[25]سورة مريم: الآية 56.
[26] الوجيزة في الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن الميداني: (ص212).
[27] متفق عليه من حديث ابن مسعود.
[28] رواه الإمام أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان.
[29] سورة النحل: الآية 105.
[30] رواه الإمام مالك في الموطأ.
[31] سورة التوبة: الآية 119.
[32] سورة البقرة: الآية 177.
[33] سورة التوبة: الآية 119.
[34] سورة الأحزاب: الآية 35.
[35] سورة محمد: الآية 21.
[36] سورة الزمر: الآية 33.
[37] رواه هناد عن مجمع بن يحيى مرسلا، حديث حسن.
[38] سورة التوبة: الآيات 117-119، والقصة مشهورة في كتب الأحاديث والسير، ينظر سيرة ابن هشام وصحيح البخاري، كتاب المغازي.
[39] حلية الأولياء.
[40] سورة محمد: الآية 21.
[41] سورة المائدة: الآية 119.
[42] رواه مسلم.
[43] أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
[44] أخرجه البخاري وغيره.
[45] سورة النساء: الآية 69.
[46] سورة البقرة: الآية 177.
[47] سنن الترمذي.