الاحتفال بالأعياد والمناسبات .. بين التحريم والإباحة

الخميس, ديسمبر 31, 2020


تعد قضية الاحتفال بالأعياد والمناسبات إحدى أبرز القضايا المتجددة؛ فمن آنٍ إلى آخر يثور الجدل حول ما يجوز وما لا يجوز للمسلم الاحتفال به من الأعياد والمناسبات. 

ومن العلماء من حصر الأعياد فى عيدي الفطر والأضحى، عيدين سنويين، ويوم الجمعة، عيدًا أسبوعيَا؛ وقيد بعدها الاحتفال بالمناسبات الأخرى، وحددها بحدود معينة لا تخالف ما كان عليه السلف، واعتبر ما زاد عليها بدعة. ومنهم من أجاز الاحتفال بغير ذلك من الأيام؛ باعتبارها أياما يجوز للمسلم الاحتفال بها، كليلة القدر، والإسراء والمعراج، والمولد النبوى، وما إلى ذلك من أيام المسلمين، إضافة إلى بعض الاحتفالات الوطنية والمناسبات الشخصية مع توسيعهم فى حدود مظاهر الاحتفال والابتهاج بالمناسبات الدينية. 

وقد استند أولئك وهؤلاء إلى نصوص وثوابت من الكتاب والسنة وسِيَر السلف الصالح، وربما تشاركوا بعضها فكانت سندا فى الرأيين على ما بين هذه الآراء وتلك  من تباين، وكتب فى ذلك من الفريقين علماء إجلاء، فضلا عن من أدلوا بدلوهم من الكُتَّاب وأصحاب المنابر الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية، وجلهم لا يعدم برهانا يستند إليه من أقوالٍ وآراءٍ لا يسهل إنكارها على أصحابها.

وفى هذا البحث سوف أحاول أن أعرض للرأيين، وما يستند إليه كل منهما، وسوف نتناول هذا البحث من خلال مباحث ثلاثة هى:

المبحث الأول: المفهوم اللغوى والاصطلاحى ( الاحتفال – العيد)

المبحث الثانى: الرأى القائل بحصر الأعياد الشرعية وتقيد مظاهر الاحتفال بالمناسبات.

المبحث الثالث: الرأى المجيز لبعض الأعياد المستحدثة الموسع فى مظاهر الاحتفال.

ظاهرة الفقر .. مصر نموذجا

الخميس, ديسمبر 31, 2020

ربما لن نختلف كثيرا حول اعتبار الفقر أحد أبرز الظواهر المعقدة، التى تواجهها المجتمعات كافة - على اختلاف وتباين ظروفها الاقتصادية -  وربما زللنا منطقا إذا ما استثنينا مجتمعا ما أو نزهناه عن تلك الظاهرة، فالفقر  ظاهرة لم يسقطها التاريخ فى أيٍ من أزمنته الغابره؛  وإنما يختلف الفقر فى مفهومه وتأثيره باختلاف البلدان والثقافات والأزمنة، ومن حيث وجهة تناوله، فإذا كان علماء الاجتماع، قد تناولوا الفقر من خلال التركيز على الأبعاد الاجتماعية؛ فإن علماء الاقتصاد قد تناولوه من خلال المعايير الكمية وارتباطها بعملية التنمية ومعدلاتها، فكما أن الفقر نتيجة لضعف معدلات النمو الاقتصادى؛ فإنه أيضا سببٌ في تعطيل هذا النمو، وعلى الرغم من أنه لا يوجد مقياس واحد للفقر .. إلا أن مختلف التعاريف قد دارت حول محورین أساسين، أولهما اقتصر على مجرد إشباع الحاجات الضروریة للإنسان والتى من شأنها أن تبقيه على قید الحیاة، ومنه مقياس الفقر المطلق الذى یعبر عنه تقریر التنمیة الدولیة بوصفه الحالة التي یستطیع معها الناس مجرد البقاء، والبقاء فقط ، حیث تكون وجبة الطعام القادمة مسألة حیاة أو موت، في حین تخطى المحور الثاني مجرد متطلبات البقاء على قيد الحياة لیشمل أشیاءً أخرى، انطلاقا من أن الإنسان لیس مجرد كائن بیولوجي، بل هو أیضا كائن اجتماعي یؤثر و یتأثر بما حوله، ويكمن الفرق بين المحورين في اعتبار أولهما الحاجة البيولوجية أساسًا للقياس، بينما يعتبر الثانى أن الإنسان ليس مجرد كائن بيولوجى؛ وإنما له احتياجات أخرى لا تقل أهمية عن حاجاته البيولوجية، غير أنه من الممكن الاتفاق على أن الفقر هو ببساطة، عدم القدرة على توفير الحد الأدنى من مستوى المعيشة المطلوب والمرغوب فيه اجتماعياً ومعنويا..

وعليه فإن للفقر خصائص وأسبابًا، فمن خصائصه، الفقر التعليمي، حيث أثبتت الدراسات أن 61% من الأسر الفقيرة يعولها أمّى[1]، كما أن عدم تنوع مصادر الدخل من خصائص الفقراء في مصر أيضا، حيث ثبت أن 42,9% من الدخل يعتمد على الأجور[2]، وكذلك طبيعة النشاط الاقتصادى إذ يتركز الفقر في مناطق النشاط الزراعى؛ حيث يتركز 80% من السكان فيتسع معدل الفقر في هذا القطاع لأكثر من الثلث[3] ، وفى دراسات أخرى كانت قلة التنمية هى السبب الأول إذ يصل الفقر في بعض قرى الصعيد إلى 80% و 100% احيانا[4]، وهو ما التفتت إليه الحكومة المصرية فى الآونة الأخيرة، وللفقر أسباب عديدة، خارجية وداخلية، فالخارجية مثل الحروب والصراعات والكوارث، والداخلية مثل الزيادة السكانية، وارتفاع نسبتى الإعالة والبطالة، والأمية، والخصوبة إضافة إلى أسباب أخرى.

وكثيرة هى الدراسات التى تناولت قضية الفقر في مصر من حيث طبيعة المشكلة، وتطورها و من حيث خصائص الفقراء وتوزيعهم الجغرافي، وسياسات مكافحة الفقر. والسياسات الحكومية المؤثرة في الظاهرة. وفى هذا البحث نتناول  المشكلة من حيث الأسباب المسئولة عنها "أسباب الفقر في المجتمع المصرى"

ويأتى هذا البحث على محورين:

1- المفاهيم والمصطلحات 

2- أسباب الفقر في المجتمع المصرى

المحور الأول

المفاهيم والمصطلحات

مفهوم الفقر لغة واصطلاحا:

الفقر في اللغة: الفَقْرُ: العَوَز والحاجة، والفَقِيرُ من الناس: من لا يملك إِلاَّ أقل القُوت.[5]

الفقر اصطلاحا: هو حالة من الحرمان المادي التي تتجلى مظاهره في انخفاض استهلاك الغذاء، وتدني الحالة الصحية والمستوى التعليمي والوضع السكني وفقدان الاحتياطي أو الضمان، لمواجهة الحالات الصعبة كالمرض والإعاقة والبطالة والكوارث والأزمات [6][7].

والفقر في مفهومه العام، هو عدم مقدرة الشخص على توفير الدخل اللازم لتلبية الحاجات الأساسية (الغذاء، المأوى، الملبس، التعليم، الصحة، والنقل)، التي تمكنه من أداء عمله بصورة مقبولة .

وقد اعتبر البنك الدولي أن الدول التي يقل معدل دخل الفرد السنوي فيها عن 600 دولار أميركي، دولاً فقيرة، ثم خفض هذه القيمة إلى 400 دولار أو ما يوازيها من العملات الأخرى العام 1992[8]

** مدارس قياس الفقر[10] ، [11]،[12]:

 1- المدرسة المطلقة: وتضع حداً أدنى لمستوى الدخل الضروري الذي يجب على كل فرد احرازه لتحقيق مستوى معيشي معقول (حد الفقر) ويصف كل من يقع دون ذلك بالفقير، وفى وصف نادية حسن (الفقر وقياسه 2004) أن هناك مقاييس مطلقة للفقر لا توجد عليها اعتراضات، فمن المقبول بصفة عامة أن الفقراء في المجتمع هم أولئك الأفراد غير القادرين على اكتساب ضروريات الحياة، و الفقر من خلال هذا المنظور هو حالة اقتصادية اجتماعية يكون فيها الأفراد غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الإنسانية الأساسية.

2. المدرسة النسبية: يعني أن الفقر سياقي وعرضة للمعايير المتغيرة بتغير المواقف فالفقر ليس هو في كل مكان، وليس هو نفسه في أي مجتمع من فترة تاريخية لأخرى. هكذا لا يمكننا أن نفرض المعايير الماضية على الأوقات الحالية [9]. وفى تعريف آخر: أن المدرسة النسبية تتعامل مع الفقر النسبي والذي يربط خط الفقر بمعدل توزيع الدخل بين السكان، حيث يكون الـ 20 -25% من سكان المجتمع الأقل دخلا هم الفقراء.

** وهناك طرق أخرى أكثر تعقيداً لقياس الفقر تستخدم سلسلة كاملة من المؤشرات الاجتماعية والمعيشية والصحية، مثل: الغذاء ، التعليم ، الصحة، المسكن ، توفر مياه الشرب ، وتوفر المرافق الصحية في المجتمع.

منظومة مؤشرات الفقر: وقد صنفها (أوزال عبد القادر) في ستة مؤشرات:

1- الفقر المطلق: يعرف بأنه الحالة التي لا يستطيع فيها الإنسان عبر التصرف بدخله، الوصول إلى الحاجات الأساسية المتمثلة بالغذاء والمسكن والملبس والتعليم والصحة والنقل.

2- الفقر المدقع: يعرف بأنه الحالة التي لا يستطيع فيها الإنسان عبر التصرف بدخله، الوصول إلى إشباع الحاجة الغذائية المتمثلة بعدد معين من السعرات الحرارية التي تمكنه من مواصلة حياته عند حدود معينة.

وقد تم التمييز بين نوعين من خطوط الفقر:

حد الفقر المطلق: يعرف بأنه إجمالي تكلفة السلع المطلوبة لسد هذه الاحتياجات سواء للفرد أو للأسرة، وفق نمط الحياة القائمة في المجتمع المعني وبحدوده الدنيا.

خط الفقر المدقع: ويمثل كلفة تغطية الحاجات الغذائية سواء للفرد أو الأسرة، وفق النمط الغذائي السائد في المجتمع المعني وبحدود معينة.

وقد وضع البنك الدولي رقمين قياسيين يستندان إلى الحد الأدنى من الاستهلاك، ومستوى المعيشة، لقياس الفقر على المستوى العالمي بصورة عامة، والدول النامية بصورة خاصة على أساس أسعار الولايات المتحدة الأمريكية لعام 1985، فالحد الأدنى للدخل هو 275 دولار للفرد سنوياً، وهو ما أسماه البنك بالفقر المدقع، والحد الأعلى للدخل هو 370 دولار للفرد سنوياً، وهو ما أسماه البنك بالفقر المطلق.

3- نسبة الفقر: تعرف بأنها نسبة السكان تحت خط الفقر إلى إجمالي السكان، وهذه النسبة تقيس الأهمية النسبية للفقراء سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أم على مستوى الأسر.

4- فجوة الفقر: يقيس هذا المؤشر حجم الفجوة الإجمالية الموجودة بين دخول الفقراء وخط الفقر أو مقدار الدخل اللازم للخروج من حالة الفقر إلى مستوى خط الفقر المحدد.

5-  شدة الفقر: يقيس هذا المؤشر التفاوت الموجود بين الفقراء، ويمكن حسابه باعتباره يساوي الوسط الحسابي لمجموع مربعات فجوات الفقر النسبية للفقراء كافة.

6- معامل جيني: يستخدم هذا المعامل كمؤشر لقياس التفاوت في توزيع الدخول ما بين جميع السكان فقراء وغير فقراء. [10]

المحور الثانى

أسباب الفقر في مصر وتشابك علاقاته 

مازالت مشكلة الفقر تشكل إحدى التحديات الأساسية التي تواجه مصر، إذ تمثل عقبة رئيسية أمام تحقيق معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي، وتحقيق التنمية المستدامة، كما يشكل الفقر والحرمان خطرًا على السلام الاجتماعي والاستقرار السياسي والأمني.

وبالرغم من تبنى الحكومات المتعاقبة لقضية تخفيض معدلات الفقر والحد من آثاره، والتأكيد الدائم على استهداف الفقراء والفئات المهمشة، والعمل على تحسين مستوى معيشتهم، إلا أن كثيرًا من هذه الجهود لم تؤت ثمارها، ولم تنجح معدلات النمو الاقتصادي في تخفيض معدلات الفقر، لأن النمو لم يرتبط بالتوزيع العادل لثماره. كما واكب النمو الاقتصادي نموًا في التوظيف لكنه لم يكن كافيًا لاستيعاب البطالة، كما كانت معظم الوظائف في القطاع غير الرسمي، ونتيجة لذلك تفاقمت مشكلة البطالة، لذلك ازدادت معدلات الفقر تباعًا

إلى جانب ذلك لم يتم إطلاق منظومة متكاملة للحد من الفقر، ولم تساعد البرامج الحكومية التي تهدف إلى الوفاء بالحد الأدنى من الحماية الاجتماعية في التخفيف من حدة الفقر، حيث كانت تعاني من إهدار الموارد المادية نتيجة لعدم الكفاءة، بالإضافة لعدم دقة الاستهداف، وتسرب المزايا إلى غير الفقراء. [11]

وتشير التقديرات وفقًا لبيانات بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك عن مستوى الفقر في مصر عام 2015 ، إلى أن نسبة السكان تحت خط الفقر بلغت 27,8% وهو ما يعني وجود نحو 25.4 مليون فقير لا يمكنه الحصول على احتياجاته الأساسية ويرصد الجدول التالي :

وأصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تقريره عن بحوث الدخل والإنفاق، الذي يصدر كل عامين، معلنًا ارتفاع نسبة الفقراء إلى 32.5% في عام 2017/2018 مقارنة بـ 27.8% في البحث الصادر عام 2015، كما  قد أصدر البنك الدولي بيانا فى شهر مايو 2019، قال فيه إن نحو 60 % من سكان مصر إما فقراء أو عرضة للفقر.

 كما كشفت نتائج بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك  للأسر المصرية  التي أعلنها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، انخفاض نسبة الفقر المدقع  بإجمالي الجمهورية في عام 2019/ 2020 إلي نحو 4.5% مقابل 6.2% في عام2017/ 2018. وأن نسبة الفقر المدقع انخفضت في عام 2019-2020 عن  عامي 2017/ 2018 وكذلك  عن نسبتها فى 2015.**

وتتشابه خصائص الفقر وأسبابه في أمور تجمع بينهما كخصائص ومسببات في نفس الوقت ومنها:  الأمية أو نقص التعليم، نقص الخدمات الصحية، اللامبالاة وغياب الإنتاجية، وفيما يلى نعرض لبعض خصائص الفقر:

- الحالة التعليمية: يتوزع الفقر وفقًا للحالة التعليمية على النحو التالي ( النسبة من الإجمالى):- بلغت نسبة الفقراء من الحاصلين على شهادة أعلى من الجامعية عام 2015 ، نحو 3 % - بلغت نسبة الفقراء من الحاصلين على شهادة جامعية عام 2015 ، نحو 7 %

- بلغت نسبة الفقراء من الحاصلين على شهادة فوق المتوسط عام 2015 ، نحو 12 %

- بلغت نسبة الفقراء من الحاصلين على شهادة ثانوي فني عام 2015 ، نحو 22 %

- بلغت نسبة الفقراء من الحاصلين على شهادة ثانوية عامة عام 2015 ، نحو 16 %

- بلغت نسبة الفقراء من الحاصلين على شهادة إعدادية/ابتدائية عام 2015 ، نحو 30 %

- بلغت نسبة الفقراء من الحاصلين على شهادة محو أمية عام 2015 ، نحو 36 %

- بلغت نسبة الفقراء الأميين عام 2015 ، نحو 40 % من الإجمالي

ومن خلال المؤشرات السابقة يتضح أن العلاقة قوية بين ارتفاع مستوى التعليم، وبين انخفاض معدلات الفقر، حيث إن التعليم المنخفض أكثر ارتباطًا بمخاطر الفقر في مصر، حيث تتناقص مؤشرات الفقر كلما ارتفع مستوى التعليم، فنجد أن 40 % من الأميين فقراء، مقابل 7% من الجامعيين، 12 % لحاملي الشهادة فوق المتوسطة، 22% لحاملي الشهادة الثانوية الفنية.

ولا يؤدي التعليم المتدني إلى زيادة احتمالات الفقر فقط ولكنه يسهم أيضًا في توارثه عبر الأجيال، حيث يرفع التعليم ذو الجودة المنخفضة احتمالات تسرب أبناء الطبقة الفقيرة من التعليم، ليلتحقوا مبكرًا بسوق العمل دون اكتساب المهارات الكافية للحصول على عمل بأجر مرتفع ومخاطر أقل، وبالتالي يلتحقون بأعمال هامشية لا تدر دخلا كافيًا، وإذا تمكنوا من تكوين أسرة لا يستطيعون تأمين احتياجاتها الأساسية ليستمر توريث الفقر عبر الأجيال. [12]

التفكك الأسري وزيادة الطلاق: لقد أثبتت كثير من الدراسات أهمية العوامل الاقتصادية في الحياة الاجتماعية للأفراد حيث أن انخفاض المستوى الاقتصادي للأسرة يمكن أن تنعكس آثاره على كثير من الجوانب المعيشية الأخرى كالتعليم، الصحة... الخ، ويمكن أن يمتد هذا التأثير إلى مستوى عمليات التفاعل الاجتماعي بين أفراد الأسرة... فقد يكون فقدان القدرة على المكسب مثلا من العوامل التي تخلق التوترات في العلاقات الأسرية وأيضاً في المكانة الاجتماعية التي تحتلها الأسرة ككل والمكانة الاجتماعية التي يحتلها المسئول الأول في الأسرة على توفير الدخل، فغالباً ما يكون الدخل الذي يحصل عليه الزوج جزءاً من الصورة التي تحملها الزوجة عن زوجها، وانعدام القدرة على التكسب نتيجة المرض أو البطالة يحجب جزءاً من هذه الصورة ويهز ملامحها ويضعف الحب بين الزوجين وقد أظهرت كثير من الدراسات أن الأزمات الاقتصادية العنيفة وبطالة الزوج تؤدي في كثير من الحالات إلى زيادة في مشكلات الأسرة... والواقع أن فقدان الزوج لمنصب شغل يمكن أن يحدث انعكاساً على مستوى العلاقة بين الزوجين يمكن أن تصل على حد الطلاق [13]

تدني المستوى الصحي: يرتبط المرض وبصفة خاصة أنواع منه بحالة الفقر التي تكون عليها الأسرة والمجتمع وذلك لقلة الموارد من جهة ولضعف الوعي من جهة أخرى ولقصور التغذية من جهة ثالثة، أو لما ينشأ عنها من ظروف ويتصل بها من ملابسات تؤدي كلها إلى انعدام الصحة وقائياً أو علاجياً... وسوء التغذية ونقص السعرات الحرارية والفيتامينات واعتلال الصحة بالإضافة إلى أمراض الجهاز التنفسي وأمراض الجهاز الهضمي والتي أثبتت العديد من التقارير الصحية والتنموية العالمية صلتها الوثيقة بالفقر، كما أن التفاعلات بين البيئة والصحة والفقر تفاعلات ذات دلالات واضحة فالتلوث البيئي (قذارة المياه والهواء) يعتبر مساهماً رئيسياً في الإصابة بالإسهال وأمراض الجهاز المعوي وأمراض الجهاز التنفسي وهي أكبر أسباب الوفاة شيوعاً للنساء والأطفال الفقراء حسب ما جاء في كثير من تقارير الأمم المتحدة ووكالاتها المخصصة منذ عام (1990م- 2003م)

أسباب أخرى للفقر في مصر

زيادة حجم الأسرة: حيث تشير المؤشرات الأخيرة إلى زيادة نسبة الفقراء مع زيادة حجم الأسرة، على النحو التالي عام 2015 [14]:

- بلغت نسبة الفقراء 6 % فقط في الأسر التي بها أقل من 4 أفراد

- بلغت نسبة الفقراء 20 % في الأسر التي بها 5 أفراد

- بلغت نسبة الفقراء 44 % في الأسر التي بها 7 أفراد

- بلغت نسبة الفقراء 65 % في الأسر التي بها 9 أفراد

- بلغت نسبة الفقراء 75 % في الأسر التي بها أكثر من 10 أفراد 

وهنا يجب الربط بين انخفاض مستوى التعليم  وحجم الأسرة، فكلما زاد عدد أفراد الأسرة، زادت نسب التسرب من التعليم، وبالتالي زادت معدلات الفقر في المجتمع المصري.

نوع النشاط الاقتصادى: حيث أثبتت  الدراسات أن هناك ارتباط وثيق بين الاستقرار في العمل والحالة المادية، إذ أن 37.6% من الفقراء المشتغلين يعملون عمل غير دائم، مقابل 62.4% يعملون عمل دائم. [15]

وتصل النسبة إلى 19.5% بين غير الفقراء الذين لا يعملون عمل دائم، بينما 80.5% من غير الفقراء المشتغلين يعملون عمل دائم

طبيعة المجتمع وخلفيته الحضارية: و المتمثلة فى عراقته الحضارية وقدرته على تنظيم أعماله وإدارة ثرواته  [16]

وربما ما اعترضه من تحديات تاريخية كالحقب الاستعمارية، كفترة الاحتلال العثمانى لمصر، على سبيل المثال [17]

تدنى الأجور: حيث إن انعدام الدخل أو انخفاضهُ يعتبر أحدّ مسببات الفقر،[18] فبالرغم من أنّ البطالة والفقر مشكلتين مترابطتين إلّا أنّ البنك الدولي نفى أن تكون البطالة هي السبب الأساسي للفقر، بل أن وصول الفرد إلى حالة الفقر قد يكون بسبب انخفاض الأجر وما يترتب عليه من تبعات، حيث أشار البنك الدولي في دارسة له في إحدى الدول العربية إلى أنّ 6% فقط من مجموع الفقراء فيها همّ من المتعطلين عن العمل [19]

ويعتبر كل ما سبق من الأسباب الداخلية المتعلقة بالفرد والمجتمع، ومن الأسباب الخارجية:

الكوارث والحروب والصراعات الدولية: أثبتت كل التجارب الإنسانية أن للكوارث والحروب والصراعات الدولية آثارا مدمرة فى النواحى الحياتية للشعوب من خلال ما يترتب عليها من تهجير ولاجئين ومخيمات وفقدان للعمل والممتلكات والاستقرار، وكلها من الأسباب القوية للفقر إذ إنها تحرم الشعوب من فرص التنمية والتطوير .

هذا بالإضافة إلى العديد من الأسباب الأخرى مثل:

انخفاض معدل النمو الاقتصادي وارتفاع معدل التضخم الاقتصادي خلال فترة الأزمات، ارتفاع معدل النمو السكاني، ارتفاع الفجوة الاقتصادية بين أفراد المجتمع الواحد في مستوى الدخل، التعرُض للحالات المفاجأة مثل الأزمات اقتصادية، أو الكوارث الطبيعية، أو الفقر البيئي.

وهناك أسباب أخرى تتعلق بأنواع محددة من الفقر مثل:

- الفقر الدورى: ولا ينطبق هذا النوع على المجتمع المصرى بأكمله بل يكون بين فئة من السكان تتعثر - أو تتوقف - أعمالهم بشكل موسمى (خلال فترة زمنية محدودة)، حيثُ ينتج عن ذلك انخفاض موسمى في القدرة على توفير الحاجات الأساسية لحياتهم؛ نتيجة لهذا التعثر أو التوقف .

ومما سبق نلاحظ أن:

- كما أنه هناك تشابه بين بعض خصائص الفقر ومسبباته؛ فإن هناك علاقة ارتباط بين الأسباب والنتائج المترتبة عليها ..

-  فكما أن بعض المشكلات الاقتصادية  تتسبب الفقر؛ فإن الفقر يسبب بعض المشكلات الاقتصادية ويصبح كلاهما سببا فى الآخر.

- نقص التعليم قد يكون بسبب الفقر وسببا له فى نفس الوقت .

- سوء الأحوال الصحية: قد يكون بسبب الفقر وقد يكون نتيجة له.

وهو ما يؤكد على أن الفقر مشكلة متعددة الأبعاد، تدور فى دائرة من العلاقات المتشابكة والمعقدة فى كل المجتمعات وليس فى المجتمع المرى فقط، وأن هناك عوامل وأسباب مشتركة بين المجتمعات، وأن هناك عوامل أخرى لها خصوصيتها المجتمعية أو الأسرية أو الفردية .

نتائج البحث:

مما سبق نخلص إلى النتائج الآتية:

- الفقر: عدم القدرة على توفير الحد الأدنى من مستوى المعيشة المطلوب والمرغوب فيه اجتماعياً ومعنويا..

- أن هناك مدارس لقياس الفقر تعتمد القياس الكمى وأخرى تعتمد القياس النوعى

- قد تتشابه بعض خصائص الفقر ومسبباته

- أنه إذا كانت بعض المشكلات الاقتصادية تتسبب الفقر؛ فإن الفقر يسبب بعض المشكلات الاقتصادية ويصبح كلاهما سببا فى الآخر.

- أن نقص التعليم قد يكون بسبب الفقر وسببا له فى نفس الوقت.

- أن سوء الأحوال الصحية: قد يكون بسبب الفقر وقد يكون نتيجة له.

- أن الفقر مشكلة متعددة الأبعاد، تدور فى دائرة من العلاقات المتشابكة والمعقدة فى كل المجتمعات وليس فى المجتمع المرى فقط، وأن هناك عوامل وأسباب مشتركة بين المجتمعات، وأن هناك عوامل أخرى لها خصوصيتها المجتمعية.

- أن أسباب الفقر فى المجتمع المصرى متعددة ومنها:

- عجز البرامج الحكومية عن تحقيق التنمية المستهدفة التى تواكب الزيادة السكانية

- زيادة حجم الأسرة

- البطالة وارتفاع نسبة الإعالة

-  نقص التعليم  والخدمات الصحية

- طبيعة ونوع النشاط الاقتصادى

المراجع:

- المعجم الوسيط

- تقرير الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء ( خصائص الفقراء فى مصر 2011)

- تقرير الجهاز المركزة للتنمية والاحصاء 2015

- تقرير التنمية البشرية مصر، 2016 - الجهاز المركزى  للتنمية والاحصاء

- تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية 2016 - مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية

  - محاضرات د/ نسرين هنداوى

- الفقـر أسبابه و آثاره ، مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية، العدد 36

- السياسات الاقتصادية الكلية ودورها في الحد من الفقر"، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، العدد 1، المجلد 25-  صابر بلول (2009)

- معضلة الفقر: آثارها ومظاهرها، سامية، قطوش، جامعة الجزائر

- أوزال عبد القادر، ملاحظات حول الفقر في العالم  - كلية الاقتصاد(جامعة البليدة) -  بدون سنة نشر - نادية جبر عبدالله حسن الفقر وقياسه - ط 1 - دار فرحة للنشر والتوزيع 2004

- دائرة الإحصاءات العامة الأردنية

  - د/ عبدالهادي يموت، عميد سابق لكلية العلوم الاقتصادية وإدارة الاعمال الجامعة اللبنانية - مجلة الدفاع الوطنى اللبنانى - العدد 64

  - مركز المعلومات الوطنى الفلسطينى 

- http://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=3217

- البنك الدولى ، مشروع تنمية المناطق الريفية 2014

- الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء 2017- 2018

الهوامش:

[1] - الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، - خصائص الفقراء في مصر- سبتمبر 2011

[2] - الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، - خصائص الفقراء في مصر- سبتمبر 2011

[3] - البنك الدولى - مشروع تنمية المناطق الريفية - اغسطس 2014 - ص 4

[4] - الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقرير 2017- 2018

[5] - نسرين هنداوى

[6] - المعجم الوسيط 

[7] - دائرة الإحصاءات العامة الأردنية

[8] - د/ عبدالهادي يموت ، عميد سابق لكلية العلوم الاقتصادية وإدارة الاعمال الجامعة اللبنانية - مجلة الدفاع الوطنى اللبنانى - العدد 64

[9] - مركز المعلومات الوطنى الفلسطينى  - http://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=3217

 [10] - نادية جبر عبدالله حسن الفقر وقياسه - ط 1 - دار فرحة للنشر والتوزيع 2004

 [11] - المرجع السابق (نادية حسن 2004)

** - جريدة المال -2020/12/3

[12] - أوزال عبد القادر، ملاحظات حول الفقر في العالم  - كلية لاقتصاد(جامعة البليدة) -  بدون سنة نشر .

 [13] - تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية 2016 - مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية

[14] - الجهاز المركزة للتنمية والاحصاء 2015، تقرير الاتجاهات الاقتصادية  الاستراتيجية  - مركز الأهرام للدراسات 2016

[15] - سامية، قطوش: معضلة الفقر: آثارها ومظاهرها، جامعة الجزائر

[16] - تقرير التنمية البشرية مصر، 2016 - الجهاز المركزى  للتنمية والاحصاء.

[17] - تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية 2016 - مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية

[18] - "الفقـر أسبابه و آثاره ، مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية، العدد 36

[19] - صابر بلول (2009)، "السياسات الاقتصادية الكلية ودورها في الحد من الفقر"، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، العدد 1، المجلد 25

المجاز العقلى

الخميس, ديسمبر 31, 2020


يلعب الإيجاز دورا بلاغيا عظيما فى اللغة؛ بما يتيحه من مبالغة وسعة فى اللفظ، والاستعاضة بقليل اللفظ عن كثيره مع الإبانة والإفصاح.. والمجاز كـ (اسم) مُشتقٌّ من جازَ الشيء أى تَعَدَّاه، وقد سَمَّوا به اللّفظَ الذى نُقِل من معناه الأصلي، واستُعمِل ليدُل على معنى غيره، مناسب له. وهو من الوسائل البيانيَّةِ التى تستخدم فى توضيح المعنى، إذْ به يخرج المعنى متَّصفاً بصفة حسّية، لهذا أكثر العرب من استعمال المجاز لميلِهم إلى الاتساع في الكلام، وإلى الدلالة على كثرة معاني الألفاظ، ولما فيه من الدِّقة في التعبير، وما يحدثه فى النفس من سرور وراحة، لهذا كثر في كلامهم، وزيّنوا به خُطبهم وأشعارهم .

والمجازَ على قسمينِ: الأول: لغويُّ، وهو استعمالُ اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة، بمعنى مناسبة بين المعنى الحقيقيِّ والمعنى المجازيِّ ـ يكون الاستعمال لقرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقيِّ، وهي قد تكون لفظيّةً، وقد تكون معنوية.

والثانى: عقليٌّ، وهو يجري في الإسناد، بمعنى أن يكون الإسناد إلى غير من هو له، نحو: (شفَى الطبيبُ المريضَ)، فإنَّ الشفاءَ من الله تعالى، فإسنادهُ إلى الطبيبِ مجازٌ، ويتمُّ ذلك بوجودِ علاقة مع قرينة مانعة من جريانِ الإسنادِ إلى من هوَ لهُ. فهذا المجازُ يسمَّى المجازَ العقلي .

المجاز العقلى: هو إسنادُ الفعل، أو ما في معناه من اسم فاعل، أو اسم مفعول أو مصدر إلى غير ما هو له في الظاهر، ويحتاج إلى قرينة تمنع من أن يكون الإسناد إلى ما هو له، ويأتى على قسمين الأول، المجاز في الإسناد، والثانى، المجاز في النسبة غير الإسنادية، ومن صفاته الإيجاز وسعة اللفظ، إيرادُ المعنى في صورة دقيقة مقربة إلى الذهن .

وسوف نتناول فى هذا الموضوع المجاز العقلى من حيف المفهوم، كما سوف نتناول أقسامه من حيث العلاقة بين الفاعل المجازى والفاعل الحقيقى، ومن حيث العلاقة بين الفعل وما فى معناه والمسند إليه المجازى، وما يشتمل عليه كل منهما، فيما يعرف بعلاقات المجاز العقلى، كذلك سنحاول تعريف القرينة باعتبارها أحد أركانه الأساسية، ومن ثم نعرض لأهمية هذا النوع من المجازات ودوره البلاغى فى اللغة؛ إذ يعد هذا النوع من أهم وأروع المجازات بما له من سعة اللفظ، ووضوح ودقة المعنى، والمبالغة البديعة، إضافة إلى الإيجاز.

المجاز قسيم الحقيقة أو مقابلها، يقصد به فى اللغة التجاوز والتعدى، ويقصد به في الإصطلاح اللغوي صرف اللفظ عن معناه الظاهر، الحرفي، إلى معنى له علاقة غير مباشرة بالمعنى الحرفي. وهو من الوسائل البلاغية التي يكثر استخدامها في كلام الناس، بغض النظر عما بينهم من تفاوتات بلاغية و لغوية، كما أنه ليس من الكذب؛ وإنما يصنف فى علم المعانى من أحوال الإسناد الخبرى، "ويذكره بعض الباحثين في علم البيان من حيث إنه ضرب من المجاز". [1]

وفى ذلك يقول القزوينى "الإسناد منه حقيقة عقلية، ومنه مجاز عقلي. فأما الحقيقة فهي إسناد الفعل، أو معناه، إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر"[2] وأما المجاز العقلى فهو إسناد الفعل، أو معناه، إلى ملابس له، غير ما هو له، بتأوّل.[3] والتأوّل هنا شرط، لأن التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره، وبدون القرينة يبقى الإسناد على ظاهره ويظل من قبيل الحقيقة .. الفرق إذا بين الحقيقة العقلية والمجاز العقلى يكمن في إسناد الفعل، أو معناه، فإن أسند إلى ما هو له؛ صار حقيقية عقلية، وإن أسند إلى مُلابِسٍ له، أى إلى غير ما هو له؛ صار مجازا عقليًا..

إذن فالإسناد لا يجرى على وتيرة واحدة فى كل كلام، وإنما تتعدد طرقه، فمنه ما هو حقيقة ومنه ما هو مجاز، لأن المتكلمين لا يلتزمون إسناد الأحداث والأفعال إلى ما هى له دائما؛ وإنما يتوسعون ويتجوزون فيه، انطلاقا مع الخيال، واستجابة للحس وتأنُّفًا فى أداء المعانى. وعلى هذا يكون الإسناد أمرا عقليا، يحصل بقصد المتكلم، كما أنه راجعٌ إلى تصرف عقله وإرادته هو، دون دخل للغة فى ذلك، وعلى هذا جاء القول: حقيقة عقلية، ومجاز عقلى، فاللغة هنا لم تحدد فاعلا معينا للفعل بحيث إذا أسند إليه كان الإسناد حقيقة، وإذا أسند إلى غيره كان مجازا، الحقيقة والمجاز إذا عقليان لا لغويان. و فى هذا الموضوع نتناول المجاز العقلى من حيث:

أولاً: تعريف المجاز العقلي، وعلاقاته.

ثانيا: قرينة المجاز العقلي، بلاغة المجاز العقلي.


أولاً: أ- تعريف الخطيب القزويني للمجاز العقلي

أشرنا فى التمهيد السابق إلى ما ذكره القزوينى فى التفريق بين الحقيقة والمجاز، فى قوله : "الإسناد منه حقيقة عقلية، ومنه مجاز عقلي. أما الحقيقة فهي إسناد الفعل، أو معناه، إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر" وقد بيَّن المراد بمعنى الفعل أنه المصدر، واسم الفاعل، وما شابه مما يأتى بيانه لاحقا.

كما رد قوله: «في الظاهر» إلى كونه يشمل ما لا يطابق اعتقاده مما يطابق الواقع، وما لا يطابقه، وأنها أربعة أضرب، أولها، ما يطابق الواقع واعتقاده، والثاني، ما يطابق الواقع دون اعتقاده، والثالث، ما يطابق اعتقاده دون الواقع، أما الرابع، فما لا يطابق شيئا منهما، كالأقوال الكاذبة التي يكون القائم عالما بحالها دون المخاطب.

وأما المجاز عنده؛ فهو إسناد الفعل، أو معناه، إلى ملابس له، غير ما هو له، بتأوّل. [4] كما بين أن للفعل ملابسات شتى، إذ أنه يلابس الفاعل، والمفعول به، والمصدر، والزمان، والمكان، والسبب.

ثم فصل القزوينى القول فذكر أن إسناده الفعل إلى الفاعل ـ إذا كان مبنيا له ـ حقيقة، وكذلك الحال عند إسناد الفعل إلى المفعول إذا كان مبنيا له، وأنهما يندرجان تحت قوله: «ما هو له» . [5] ثم بيَّن أن إسناده إلى غيرهما ـ لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل ـ إنما يكون مجازا.

ويتوافق تعريف الهاشمى فى كتابه "جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع" مع تعريف الخطيب القزوينى، فقد جاء فى تعريفه للمجاز العقلى: "هو إسنادُ الفعلِ، أو ما في معناهُ من اسمِ فاعلٍ، أو اسمِ مفعولٍ أو مصدرٍ إلى غير ما هو له في الظاهرِ، من حال المتكلِّمِ، لعلاقةٍ مع قرينةٍ تمنعُ من أن يكونَ الإسنادُ إلى ما هوَ لهُ." [6]

وبناء على ما سبق فإن المجاز العقلى يترتب على إسناد الفعل أو معناه(اسم الفاعل – اسم المفعول – المصدر) إلى غير ما هو له فى الظاهر، ولا يكون المجاز العقلي إلّا في إسناد، أي: في ما كان فيه المعنى قائما على مسند ومسند إليه. [7] وأنه لابد له من علاقة (ملابسة) وقرينة صارفة عن إرادة الإسناد الحقيقى، شأنه فى ذلك شأن غيره من المجازات. كون العلاقة هى التى تصحح الإسناد، فلا يصح ارتباط الفعل بفاعل لا تربطه به صلة، ولا تجمعه به علاقة، كما أن القرينة هى التى تدل على ما يقصده المتكلم، وبالتالى فإن الكلام بدونها يصبح ألغازا غير مفهومة، ليس فيها ما يفصح عن مراد المتكلم بها حقيقة كانت أو مجاز.

ب: علاقات المجاز العقلي

كما تبينَّا من تعريف المجاز العقلى، أنه لابد له من علاقة ملابسة تصحح التجوُّز.. ويمكن النظر إلى هذه العلاقة من ناحيتين: الأولى، العلاقة بين الفاعل المجازى والفاعل الحقيقى. والثانية، العلاقة بين الفعل وما فى معناه والمسند إليه المجازى.

1- من حيث العلاقة بين الفاعل المجازى والفاعل الحقيقى:

ومثل تلك العلاقة في قوله تعالى" فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين" [8] فالقصد: ما ربح التُجَّار–المشترين - فى تجارتهم، وتقع الملابسة فى المثال بين الفاعل المجازى (التجارة) والفاعل الحقيقى (التجار/ المشترين)، وهذه الملابسة فى تعلق الفعل بكل منهما. والمثال ساقه الزمخشرى فى سياق تعريفه للمجاز العقلى الذى عرَّفه بقوله: " أن يستند الفعل إلى شيء يلتبس بالذى هو فى الحقيقة له" [9]

2- العلاقة بين الفعل وما في معناه والفاعل المجازى:

يستند القائلون بهذا الرأى - على أغلب الظن - بما سبق وذكرناه في المطلب السابق من قول الخطيب القزوينى "إن للفعل ملابسات شتى، إذ أنه يلابس الفاعل، والمفعول به، والمصدر، والزمان، والمكان، والسبب" ، وهو الكلام الذى نقله الزمخشرى عن الخطيب القزوينى ، غير أن القزوينى قد أوضح كما سبق وأشرنا أيضا " أن إسناد الفعل إلى الفاعل ـ إذا كان مبنيا له ـ حقيقة، وكذلك الحال عند إسناد الفعل إلى المفعول إذا كان مبنيا له، وأنهما يندرجان تحت قوله: «ما هو له» . أما إسناده إلى غيرهما ـ لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل ـ إنما يكون مجازا. و كما أن العلاقة بين الفاعل الحقيقى والفاعل المجازى قائمة على الملابسة الموجودة بينهما، فإن وجود علاقة بين الفعل وفاعله المجازى تستلزم وجود علاقة بين الفاعل الحقيقى والفاعل المجازى ..

وعليه يمكن النظر إلى علاقة الملابسة من الناحيتين السابقتين، غير أن العلاقة بين الفاعل الحقيقى والمجازى واحدة غير متعددة، أما العلاقة بين الفعل والمسند إليه المجازى فمتعددة، فالفعل يتعلق بالفاعل لصدوره منه، ويتعلق بالمفعول لوقوعه عليه، وبالمصدر لكونه جزء من مفهومه، وبالزمان لوقوعه فيه ، وكذلك بالمكان، ويتعلق بالسبب لوقوعه به أو لأجله. وعليه فإن المجازُ العقليُّ على قسمين:

القسم الأول:- المجازُ في الإسنادِ، وهو إسنادُ الفعلِ أو ما في معنى الفعلِ إلى غير من هوَ لهُ، وهو على أقسام كما سنبين أدناه .

القسم الثانى - المجازُ في النسبةِ غيرِ الإسناديةِ.

1- القسم الأول:علاقات المجاز العقلى بحسب ما أسند إليه الفعل أو معناه مجازا هى:

المفعولية: وتكون في تركيب يقوم على إسناد الفعل أو ما في معناه الى المفعول به في الأصل. ويسند فيها الفعل الى صيغة اسم الفاعل والمراد اسم المفعول نحو: مكان آمن، طريق سالك، غرفة مضيئة. والمقصود: مكان مأمون، وطريق مسلوك، وغرفة مضاءة. فاستعملت صيغة اسم الفاعل (آمن، سالك، مضيئة) بينما المراد معنى المفعولية (مأمون، مسلوك، مضاءة) ففي العبارات الثلاث مجاز عقلي أسند فيه المبني للفاعل الى المفعول، والقرينة معنوية ، فالعلاقة مفعولية. [10].

الفاعلية: يكون بإسناد ما بني للمفعول (اسم المفعول) الى الفاعل، ويسند فيها الفعل الى صيغة اسم المفعول، والمراد اسم الفاعل نحو : ليل مستور، وسيل مفعم؛ بينما المراد ليل ساتر وسيل مفعم.. فاستعملت صيغة اسم المفعول (مستور، مفعم) بينما المراد معنى الفاعلية (ساتر، مفعم) ففي العبارتين مجاز عقلي أسند فيه المبني للمفعول الى الفاعل والقرينة معنوية والعلاقة فاعلية. ومنه قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)[11] أي كان وعده آتيا. [12]

المصدرية: تكون في التراكيب التي يسند فيها الفعل أو ما في معناه الى المصدر من لفظه : وفيها يسند الفعل الى مصدره بدلا من الفاعل الحقيقي ، نحو: دارت دورة الدهر. الله جلّ جلاله ، جن جنون الرجل، ونحن نريد: دار الدهر، وجلّ الله ، وجنّ الرجل. ولكن أسندت الأفعال الى مصادرها (دورة ، جلال، جنون) وكل منها مسند إليه بدلا من إسنادها الى الفاعل الحقيقي (الدهر، الله، الرجل) ففي كل من الجمل الثلاث مجاز عقلي أسند فيه الفعل إلى مصدره فالعلاقة مصدرية. [13]

ومثاله أيضا - قول أبي فراس الحمداني: سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. فقد أسند الجد إلى الجد، أي الاجتهاد، وهو ليس بفاعل له، بل فاعله الجاد - فأصله جد الجاد جدا، أي اجتهد اجتهاداً، فحذف الفاعل الأصلي وهو الجاد، واسندَ الفعل إلى الجد. [14]

المكانية: ويكون المسند إليه مكانا يجري فيه المسند (الفعل أو ما في معناه). ويسند فيها الفعل إلى المكان الذي وقع فيه، كقولنا : حديقة غنّاء، ومكان مزدحم، ضجّت القاعة وجرى النهر؛ بينما المراد ، حديقة طيورها غناء، ومكانا مزدحم الناس، وضج القوم في القاعة.

فأسندت الأفعال أو ما في معناها (غناء، مزدحم، ضجّت، جرى) إلى المكان الذي وقعت فيه (حديقة، مكان، قاعة، مجرى) وليس إلى الفاعل الحقيقي لكل منها (الطيور، الناس، القوم، النهر) ففي كل من الجمل الأربع مجاز عقلي أسند فيه الفعل أو ما في معناه إلى مكانه بدلا من إسناده الى الفاعل الحقيقي، والعلاقة مكانية. [15] ومثاله أيضا: وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم) فقد أسند الجرى إلى الأنهار، وهي أمكنة للمياه، وليست جارية بل الجاري ماؤها. [16]

الزمانية: وتكون بإسناد الفعل إلى زمانه الذى وقع فيه، ومثاله : (من سره زمن ساءته أزمان) فقد أسند الإساءة والسرور إلى الزمن، وهو لم يفعلهما، بل كانا واقعين فيه على سبيل المجاز. [17]

ومثل: صام نهاره وقام ليله، فلا النهار يصوم ولا الليل يقوم، وإنما أسند صيام الصائم إلى النهار الذى صام فيه، وقيام القائم إلى الليل الذى قام فيه.

السّببية: ويسند فيها الفعل الى السبب الذي أدّى اليه مثل: نبت الغيث، فتح القائد المدينة، بنت الحكومة جامعة. والمعروف أن الذي نبت هو العشب والغيث هو سبب نباته. وان الذي فتح المدينة هم الجنود والقائد هو السبب وأن البنائين هم الذين بنوا الجامعة والحكومة هي السبب في البناء.

ولقد أسندت الأفعال في الجمل الثلاث إلى أسبابها بدلا من إسنادها إلى الفاعلين الحقيقيين (العشب ، الجنود ، البنائين). [18]

2- القسم الثانى: المجازُ في النسبةِ غيرِ الإسناديةِ ،وأشهرُها النسبةُ الإضافيّةُ نحو:

أ - (جَرْيُ الأنهارِ) فإنَّ نسبةَ الجريِ إلى النهرِ مجازٌ باعتبار الإضافةِ إلى المكانِ.

ب - (صومُ النهارِ) فإنَّ نسبةَ الصومِ إلى النهارِ مجازٌ باعتبارِ الإضافة إلى الزمانِ.

ج -(غُرابُ البَينِ) فإنّهُ مجازٌ باعتبار الإضافة إلى السببِ.

د - (اجتهادُ الجِدّ) مجازٌ باعتبار الإضافةِ إلى المصدرِ. [19]

** هذا ونشير إلى أن أصحاب علم البيان قد قسموا المجاز العقلى من حيث العلاقة بين طرفيه إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: أن يكون الطرفان حقيقتين، مثل: "سال الوادي".

فالمسند وهو فعل "سال" مستعمل فيما وضع له لغة وهو السيلان، ولا مجاز فيه. والمسند إليه وهو "الوادي" مستعمل أيضا فيما وضع له لغة ولا مجاز فيه.. لكن المجاز وقع في الإسناد وهو نسبة السيلان إلى الوادي، وهذا من المجاز العقلي.

القسم الثاني: أن يكون الطرفان مجازيين، مثل: قوله عز وجل في سورة (البقرة): {فما ربحت تجارتهم}.

نفي الربح: مجاز عن عدم تحصيلهم نفعا من أخذ الضلالة وترك الهدى، و تجارتهم: مجاز عن عملية أخذ الضلالة وترك الهدى. وإسناد نفي الربح عن تجارتهم مجاز عقلي، إذ المنافقون هم الذين لم يربحوا.

القسم الثالث: أن يكون المسند حقيقة والمسند إليه مجازا، مثل: "أنبت البقل شباب الزمان"، الإنبات: حقيقة. وشباب الزمان مجاز، والإسناد مجاز عقلي، والملابسة السببية.

القسم الرابع: أن يكون المسند مجازا والمسند إليه حقيقة كقول المتنبي: وتحيي له المال الصوارم والقنا * ويقتل ما تحيي التبسم والجدا، الإحياء مجاز عن الإنماء، الصوارم والقنا حقيقة، وإسناد الإحياء إلى الصوارم والقنا مجاز عقلي، والملابسة السببية.

ثانيا - أ: قرينة المجاز العقلى 

فى تعريفه للمجاز العقلى يقول صاحب جواهر البلاغة "المجاز العقلي: هو إسنادُ الفعل، أو ما في معناه (من اسم فاعل، أو اسم مفعول أو مصدر) إلى غير ما هو له في الظاهر، من حال المتكلم، لعلاقة مع قرينة تمنع من أن يكون الإسناد إلى ما هو له." [20] والقرينة هى العلامة الصارفة عن إرادة الظاهر من الإسناد، وهى ما قصدها القزوينى فى لفظة (التأوُّل)؛ ذلك لأن التأويل معناه: صرْف الشيء عن ظاهره إلى غيره، ومعرفة ما يؤول إليه المعنى. والمجاز العقلى يحتاج إلى هذه القرينة (العلامة الدالة) التى تصرفه عن الإسناد الحقيقى، فبدونها يصبح الكلام ألغازا وتعمية غير واضحة المراد، حيث أن عمل القرائن في رفعّ اللبس والإبهام يدور على ما استعمل بخلاف الأصل, فإن غابت تلك القرائن أو خفيت وقع التعقيد اللفظي في أصل النَّظم, والتعقيد المعنوي في مقتضياته كالمجاز والكناية, وتلك القرائن هى التى تحقق الحد الأدنى من البيان وهو وضوح المعنى وانجلاؤه. فمن أجل ذلك كانت شرطا في تحقق المجاز والكناية [21] والقرينة نوعان: إما لفظية، وإما معنوية.

1- القرينة اللفظية: بأن يكون فى الكلام لفظ يصرفه عن ظاهره [22] أى أن يكون هناك لفظ مذكور في سياق الإسناد المجازي، يُوضح لنا أن الإسناد ليس على حقيقته.

ومثل هذه القرينة اللفظية جاء في قول الصلتان العبدي قُثَم بن خبيَّة :أَشَابَ الصغيرَ وأَفَنى الكبيرَ كَرُّ الغداة ومَرُّ العشيّ. والغداة: هي أوّل النهار، وكرّها بمعنى: رجوع الغداة بعد ذهابها، والعشي هو: أول الليل، فأسند فعْل الإشابة إلى رجوع الغداة، وإلى مرور أوائل الليل. لكن إذا نظرنا إلى الظاهر، نقول هذا إسناد حقيقيّ نظراً لأنه فيما يبدو لنا في الظاهر: أنّ الشاعر يؤمن بأن الذي أحدث الشيب في رأس الصغير وأمات الكبير هو: "كرّ الغداة ومرّ العشيّ".

لكننا عندما نتابع هذه القصيدة التي فيها هذا البيت، نجد فيها ما يدلّ على أنه لم يُرِد بإسناد الإشابة والإفناء إلى كرّ الغداة ومرّ العشي، الظاهر بدليل أنه قال: فمِلّتنا أننا مسلمون على دين صِدِّيقِنا والنبي. وهذا دليل على أنه موحد تلزمه عقيدته الإيمان بأن الفعل لله وحده، وهذا دليل لفظي، أو قرينة لفظية، على أن الإسناد في "أشاب" و"أفنى" إنما هو إسناد مجازي.

2- القرينة المعنوية: وقد عبروا عنها أحياناً بالقرينة الحالية، وهذا النوع من القرينة الغير لفظية، أو الحالية، أو المعنوية، وذلك بأن يكون مع الإسناد أمر معنوي يصرفه عن ظاهره، وتأتي تحتها ثلاث صوَر، منها:

الصورة الأولى: هى استحالة قيام المسند بالمسند إليه عقلا؛ أو استحالة صدور المسنَد من المسنَد إليه، المذكور في الكلام أو قيامه به، لأن الفاعل هو مَنْ أحدث الفعل وصدر عنه الفعل، أو من اتصف بالفعل. فإذا كان هذا الفعل وما في معنى الفعل يستحيل صدوره من جهة العقل بهذا الفاعل، فإن هذه قرينة حالية أو غير لفظية أو قرينة معنوية، ومن ذلك قولهم: "محبتك جاءت بي إليك" و "سرّتني رؤيتك"، لأنه من الواضح استحالة اتصاف المحبة بالمجيء واتصاف الرؤية بالسرور. هذه استحالة عقلية، العقل لا يتصوّر ذلك وبالتالي فهذه قرينة حالية، وهي الاستحالة العقلية.

الصورة الثانية: أن تكون استحالة صدور المسند من المسند إليه المذكور في الكلام، أو قيامه به إنما هي استحالة العادة والعرف بين الناس، نحو: "هزم القائد جيش الأعداء". "وكسا الأمير الكعبة"، والعادة أن هذه الأفعال لا تصدر عن القائد، أو الأمير، وإنما القائد أو الأمير هو من أصدر الأمر، بينما ينفذ آخرون. الاستحالة هنا إذن راجعة للعادة والعرف.

الصورة الثالثة: صدور الكلام من الموحِّد، أى أن يصدر الكلام عن مسلم موحِّد ، كما في قول مَن تعرف حاله على هذا النحو: "شفى الطبيب المريض" وأمثالَه. فلو أنك سمعت هذا وعلمت أن صاحبه مسلم لأدركت أنه لا يعتقد بأن الطبيب هو الفاعل الحقيقي وإنما هو سبب من الأسباب، عند ذلك تكون عقيدة التوحيد هنا قرينة على المجاز.

ولو افترضنا فى المثال السابق أن صاحب الكلام كان من الدهريين أو الوجوديين لتبدلت النتيجة وأصبح الكلام من قبيل الحقيقة العقلية حيث لا قرينة تصرفه عن ظاهرة .

ثانيًا - ب: بلاغة المجاز العقلى 

يقول "الشيخ عبد القاهر الجرجاني" متحدثا عن بلاغة المجاز العقلي:

"هذا الضرب من المجاز على حدته كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المفلق، والكاتب البليغ، في الإبداع، والإحسان، والاتساع في طرق البيان، وأن يجئ بالكلام مطبوعا مصنوعا، وأن يضعه بعيد المرام قريبا من الأفهام . [23]

ولا يغرنك من أمره أنك ترى الرجل يقول: أتى بي الشوق إلى لقائك، وسار بي الحنين إلى رؤيتك، وأقدمني بلدك حق لي على إنسان، وأشباه ذلك، مما تجده لشهرته يجري مجرى الحقيقة، فليس هو كذلك، بل يدق ويلطف، حتى يأتيك بالبدعة التي لم تعرفها، والنادرة تأنق لها". [24]

ويقول عبد الرحمن الميدانى [25]

كل من يقرأ أو يسمع كلاما بليغا مؤثرا إذا رجع إلى تحليل عناصر التأثير فيه، القائمة على الإبداع الرفيع يلاحظ أن من أكثر هذه العناصر تأثيرا في نفسه، ما اشتمل الكلام عليه من مجاز بديع، وتكثر فيه الفقرات التي تنتمي إلى قسم المجاز العقلي. ولا يحسن الإبداع المؤثر من هذا المجاز إلا أذكياء البلغاء.

وتكمن روعة المجاز العقلى فى أن المتكلم بهذا الأسلوب يعدل عن الإسناد الحقيقى، وينسب الفعل إلى غير ما هو له، فيخيل إلى السامع أن الفعل وقع من غير فاعله أو على غير مفعوله.

وفى هذا التخيل متعة نفسية لا يفطن إليها ولا يدرك سحرها إلا صاحب الذوق البيانى الرفيع حيث يعينه الذوق على إدراك الفروق بين الأساليب المختلفة حقيقة ومجازا. كما أنه يؤدى إلى المبالغة فى إثبات الفعل لفاعله بطريق مؤكد، إضافة إلى الإيجاز الذى هو فن من فنون البلاغة.

الإيجاز العقلى إذن يوسّع على المتكلم فى طرق البيان ويوجز فى تأدية المعنى، ويمنح ما يهيأ من خيال المتعة للسامع المتذوق البليغ ، وتطبع مبالغاته أثرا بلاغيا رائعا فى أسلوب المتكلم .

خلاصة القول أن للمجاز فى اللغة شأن ومنزلة فهو طريق من طرق التوسع فيها، وواحد من فنونها البلاغية، والمجاز العقلى أحد هذه المجازات. وهو من حيث المفهوم " إسناد الفعل أو ما في معناه إلي غير ما هو له؛ لعلاقة بينهما مع وجود قرينة مانعة من الإسناد الحقيقي" وسمّي مجازا عقليا " لأن كلا من ركني الإسناد قد يكون مستعملا في معناه اللغوي بحسب وضعه، إنما حصل التجوز في الإسناد وفي النسبة فقط، وقد يكون مستعملا في معنى مجازي على طريقة المجاز اللغوي، وأضيف إلى ذلك مجاز عقلي حاصل في الإسناد، أي: في نسبة المسند إلى المسند إليه، سواء أكانت الجملة فعلية أو اسمية، وهو على قسمين:

الأول: المجاز في الإسناد، وهو إسناد الفعل أو ما في معنى الفعل إلى غير من هو له، وهو على أقسام، أشهرها:

1 ـ الإسناد إلى الزمان، كقول: (من سرّه زمن ساءته أزمان) فإن إسناد المسرّة والاساءة إلى الزمان مجاز، إذ المسيء هو بعض الطوارئ العارضة فيه، لا الزمان نفسه.

2 ـ الإسناد إلى المكان، نحو قوله تعالى: (وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم) فإنّ إسناد الجري إلى الأنهار مجاز، باعتبار مائها.

3 ـ الإسناد إلى السبب، كقول: (بنى الأمير المدينة) فإنّ الأمير فقط أمر بناء المدينة لا من بناها بنفسه.

4 ـ الإسناد إلى المصدر، كقول: (سيذكرني قومي إذا جَدَّ جِدّهم) فإنّ الفعل (جَدَّ) أُسند إلى المصدر: (جِدّهم) مجازاً، لأنّ الفاعل الأصلي هو الجادّ.

الثاني: المجاز في النسبة غير الإسنادية، وأشهرها النسبة الإضافيّة نحو:

1 ـ (جَرْيُ الأنهار) فإنّ نسبة الجري إلى النهر مجاز باعتبار الإضافة إلى المكان.

2 ـ (صومُ النهار) فإنّ نسبة الصوم إلى النهار مجاز باعتبار الإضافة إلى الزمان.

3 ـ (غُرابُ البَين) فإنّه مجاز باعتبار الإضافة إلى السبب.

4 ـ (اجتهاد الجِدّ) مجاز باعتبار الإضافة إلى المصدر.

وتظهر بلاغة المجاز العقلي في :

- الإيجاز فى تأدية المعنى المقصود ، والاتساع فى طرق البيان .

- تحضير العلاقة بين المعنين الأصلي والمجازي، وعدم خلو المجاز من مبالغة بديعية ذات أثر .

- تكمن روعة المجاز العقلى فى أن المتكلم بهذا الأسلوب يعدل عن الإسناد الحقيقى، وينسب الفعل إلى غير ما هو له، فيخيل إلى السامع أن الفعل وقع من غير فاعله أو على غير مفعوله .


المراجع

- الإيضاح فى علوم البلاغة - للخطيب القزوينى - دار الكتب العلمية - بيروت – لبنان

- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد الهاشمى - المبحث الثالث في تعريف المجاز العقلي وعلاقاته - المكتبة الشاملة الحديثة

- علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني ) - د/ محمّد أحمد قاسم ، د/ محيي الدين ديب - مؤسسة الحديثة للكتاب - ط1

- الخلاصة فى علوم البلاغة ، علي بن نايف الشحود

- القرائن فى علم المعانى ، ضياء القالش ، رسالة دكتوراه ، جامعة دمشق 2010-2011

- دلائل الإعجاز/ لعبد القاهر الجرجانى - تحقيق وشرح محمد عبد المنعم خفاجى -مكتبة القاهرة 1980

- البلاغة العربية، أسسها وعلومها وفنونها - عبد الرحمن الميدانى- الدار الشامية بيروت - ط 1996 - الجزء الثانى

- كتاب خصائص التراكيب ، محمد أبو موسى

- الكشاف للزمخشرى – نسخة المكتبة الشاملة – الجزء الأول



الهوامش:

[1] - كتاب خصائص التراكيب ، محمد أبو موسى – التجوز فى الإسناد ص 101

[2] - الإيضاح فى علوم البلاغة - للخطيب القزوينى - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان - ص 31

[3] - المرجع السابق ص 32

[4] - الإيضاح فى علوم البلاغة - للخطيب القزوينى - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان – ص 32

[5] - المرجع السابق – ص 32

[6] - جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد الهاشمى - المبحث الثالث في تعريف المجاز العقلي وعلاقاته - المكتبة الشاملة الحديثة

[7] - علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني ) - د/ محمّد أحمد قاسم، د/ محيي الدين ديب - مؤسسة الحديثة للكتاب - ط1، ص 233

[8] - الآية 16 من سورة البقرة .

[9] - الكشاف للزمخشرى - 1/192، كتاب مقرر علم المعانى (1) ص 124

[10] - علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )، مرجع سابق ص 238

[11] - سورة مريم ، الآية 61

[12] - علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )، مرجع سابق ص 237

[13] - المرجع السابق ص 236

[14] - جواهر البلاغة فى المعانى ، مرجع سابق ، ص ٢٥٥

[15] - علوم البلاغة ( البديع والبيان والمعاني )، مرجع سابق ص235

[16] - جواهر البلاغة فى المعانى ، مرجع سابق ، ص ٢٥٥

[17] - جواهر البلاغة ، مرجع سابق ، ص 255

[18] - علوم البلاغة ، مرجع سابق ، ص 239

[19] الخلاصة فى علوم البلاغة ، علي بن نايف الشحود ، ص 42

[20] - جواهر البلاغة ، مرجع سابق ، ص 255

[21] - القرائن فى علم المعانى ، ضياء القالش ، رسالة دكتوراه ، جامعة دمشق 2010-2011

[22] - القرائن فى علم المعانى – رسالة دكتوراه – جامعة دمشق ص 173

[23] - دلائل الاعجاز / لعبد القاهر الجرجانى - تحقيق وشرح محمد عبد المنعم خفاجى -مكتبة القاهرة 1980

[24] - البلاغة العربية - أسسها وعلومها وفنونها ، عبد الرحمن الميدانى - جـ2، ص 304

[25] - صاحب كتاب البلاغة العربية ، اسسها وعلومها وفنونها - الدار الشامية بيروت - ط 1996 - الجزء الثانى


القرينة في المجاز العقلي