تعد قضية الاحتفال بالأعياد والمناسبات إحدى أبرز القضايا المتجددة؛ فمن آنٍ إلى آخر يثور الجدل حول ما يجوز وما لا يجوز للمسلم الاحتفال به من الأعياد والمناسبات.
ومن العلماء من حصر الأعياد فى عيدي الفطر والأضحى، عيدين سنويين، ويوم الجمعة، عيدًا أسبوعيَا؛ وقيد بعدها الاحتفال بالمناسبات الأخرى، وحددها بحدود معينة لا تخالف ما كان عليه السلف، واعتبر ما زاد عليها بدعة. ومنهم من أجاز الاحتفال بغير ذلك من الأيام؛ باعتبارها أياما يجوز للمسلم الاحتفال بها، كليلة القدر، والإسراء والمعراج، والمولد النبوى، وما إلى ذلك من أيام المسلمين، إضافة إلى بعض الاحتفالات الوطنية والمناسبات الشخصية مع توسيعهم فى حدود مظاهر الاحتفال والابتهاج بالمناسبات الدينية.
وقد استند أولئك وهؤلاء إلى نصوص وثوابت من الكتاب والسنة وسِيَر السلف الصالح، وربما تشاركوا بعضها فكانت سندا فى الرأيين على ما بين هذه الآراء وتلك من تباين، وكتب فى ذلك من الفريقين علماء إجلاء، فضلا عن من أدلوا بدلوهم من الكُتَّاب وأصحاب المنابر الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية، وجلهم لا يعدم برهانا يستند إليه من أقوالٍ وآراءٍ لا يسهل إنكارها على أصحابها.
وفى هذا البحث سوف أحاول أن أعرض للرأيين، وما يستند إليه كل منهما، وسوف نتناول هذا البحث من خلال مباحث ثلاثة هى:
المبحث الأول: المفهوم اللغوى والاصطلاحى ( الاحتفال – العيد)
المبحث الثانى: الرأى القائل بحصر الأعياد الشرعية وتقيد مظاهر الاحتفال بالمناسبات.
المبحث الثالث: الرأى المجيز لبعض الأعياد المستحدثة الموسع فى مظاهر الاحتفال.
المبحث الأول
تعريف و معنى احتفال: لغة واصطلاحا
احتِفال: (اسم)، الجمع: احتفالات، اجتماعٌ على فرح ومسرّة.
قاعة الاحتفالات: مكان متّسع تُعقد فيه الاجتماعات، وتُقام الحفلات.
احتفال: (اسم)، اِحتفال: مصدر احتفل، اِحتَفَلَ: (فعل)، احتفلَ / احتفلَ بـ / احتفلَ لـ يحتفل، احتفالاً، فهو مُحتفِل، والمفعول مُحتفَل به، اِحْتَفَلَ الشَّعْبُ: أَقَامَ احْتِفَالاً، احتفل بالشَّخص: أكرمه واهتمّ به، اجتمع لتكريمه، اِحْتَفَلَ الْمَجلِسُ بالنَّاسِ: اِمْتَلأَ بِهِمْ، مَا احْتَفَلَ بِهِ: مَا بَالَى بِهِ، مَا اهتَمَّ بهِ، احْتَفَلَ بالأمر: عُني به[1]
تعريف ومعنى "عيد" لغة اصطلاحا:
عَيَّدَ: (فعل)، عيَّدَ يعيِّد، تعييدًا، فهو مُعيِّد، عَيَّدَ: شَهِدَ العِيدَ واحتفلَ به، عِيْد: (اسم)، عِيْد: جمع عَادَةُ
عيد: (اسم)، الجمع: أَعياد، العِيدُ: كلُّ يوم يُحتفَلُ فيه بذكرى حادثةٍ عزيزة أو دينيَّة[2]
ومن التعريفين السابقين يمكننا القول بأن الاحتفال بالعيد هو اجتماع الناس على فرح ومسرة للاحتفال بذكرى عزيزة أو لمناسبة دينية ، ويختص المسلمون بعيدين هما عيد الفطر وعيد الأضحى، أما ما عداهما فهو محل لاختلاف الرأى من جواز أو عدم جواز تسميته بالعيد، كما أن هناك مناسبات دينية أجاز البعض الاحتفال بها ولم يجزه البعض الآخر ولكل أسانيده التى بنى عليها رأيه.
المبحث الثانى
الرأى القائل بحصر الأعياد الشرعية وتقيد مظاهر الاحتفال
وحجتهم في ذلك أن البدعة الحسنة غير جائزة، لأنها زيادة في الدين، والزيادة في الدين كالنقص منه، والدين قد اكتمل بنزول القرآن ووفاة النبي (صلى الله عليه وسلم).
وفي ضوء ذلك، يرى مشددوهم أن مثل هذه الاحتفالات لا تجوز بأي حال من الأحوال. وربما تستبين آرائهم فيما ذكره السيوطى فى (حسن المقصد في عمل المولد)
فيما جاء عنه عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول، ما حكمه من حيث الشرع؟ وهل هو محمود أو مذموم؟ وهل يثاب فاعله أم لا؟
فجاء جوابه:
"عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف.[3]
وقال سبط ابن الجوزي في مرآة الزمن:
حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد أنه عد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس غنم شوي وعشرة آلاف دجاجة ومائة فرس ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلوى.
قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعا من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاث مائة ألف دينار، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة، فكان يصرف على هذه الدار في كل سنة مائة ألف دينار، وكان يستفك من الفرنج في كل سنة أسارى بمائتي ألف دينار، وكان يصرف على الحرمين والمياه بدرب الحجاز في كل سنة ثلاثين ألف دينار، هذا كله سوى صدقات السر، وحكت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب أخت الملك الناصر صلاح الدين أن قميصه كان من كرباس غليظ لا يساوي خمسة دراهم، قالت: فعاتبته في ذلك فقال: لبسي ثوبا بخمسة وأتصدق بالباقي خير من أن ألبس ثوبا مثمنا وأدع الفقير والمسكين.
وقال ابن خلكان في ترجمة الحافظ أبي الخطاب ابن دحية:
كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، قدم من المغرب فدخل الشام والعراق واجتاز بأربيل سنة أربع وستمائة فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي فعمل له كتاب (التنوير في مولد البشير النذير)، وقرأه عليه بنفسه فأجازه بألف دينار.
قال: وقد سمعناه على السلطان في ستة مجالس في سنة خمس وعشرين وستمائة. انتهى."
ويقول السيوطى "وقد ادعى الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني من متأخري المالكية، أن عمل المولد بدعة مذمومة، وألف في ذلك كتابا سماه (المورد في الكلام على عمل المولد)، وأنا أسوقه هنا برمته وأتكلم عليه حرفا حرفا؛ قال رحمه الله:
الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين، ويسر لنا اقتفاء أثر السلف الصالحين حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين، وطهر سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع في الدين، أحمده على ما من به من أنوار اليقين، وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين صلاة دائمة إلى يوم الدين.
أما بعـد: فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه (المولد) هل له أصل في الشرع أو هو بدعة وحدث في الدين؟، وقصدوا الجواب عن ذلك مبيناً، والإيضاح عنه معينا، فقلت وبالله التوفيق:
لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجبا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو محرما، وليس بواجب إجماعا، ولا مندوبا لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون المتدينون فيما علمت، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت، ولا جائز أن يكون مباحا لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين، فلم يبق إلا أن يكون مكروها أو حراما، وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين، والتفرقة بين حالين:
أولهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئا من الآثام، وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام سرج الأزمنة وزين الأمكنة.
والثاني: أن تدخله الجناية وتقوى به العناية حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه وقلبه يؤلمه ويوجعه لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء: أخذ المال بالجاه كأخذه بالسيف، لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهن أو مشرفات، والرقص بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد والخروج في التلاوة والذكر المشروع والأمر المعتاد غافلات عن قوله تعالى(إن ربك لبالمرصاد)، وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المنكرات المحرمات فإنا لله وإنا إليه راجعون، (بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدا).
ولقد أحسن الإمام أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب، هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم وهو ربيع الأول هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه. وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول."
هذا جميع ما أورده الفاكهاني في كتابه، المورد في حكم المولد، وأقـــول:
أما قوله: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، فيقال عليه: نفي العلم لا يلزم منه نفي الوجود، وقد استخرج له إمام الحفاظ أبو الفضل ابن حجر أصلا من السنة، واستخرجت له أنا أصلاً ثانياً، وسيأتي ذكرها بعد هذا.
وقوله: بل هو بدعة أحدثها البطالون... إلى قوله: ولا العلماء المتدينون يقال عليه: قد تقدم أنه أحدثه ملك عادل عالم، وقصد به التقرب إلى الله تعالى، وحضر عنده فيه العلماء والصلحاء من غير نكير منهم، وارتضاه ابن دحية، وصنف له من أجله كتاباً، فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقروه ولم ينكروه.
وقوله: ولا مندوبا لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع يقال عليه: إن الطلب في المندوب تارة يكون بالنص، وتارة يكون بالقياس، وهذا وإن لم يرد فيه نص ففيه القياس على الأصلين الآتي ذكرهما.
وقوله: ولا جائز أن يكون مباحا لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين: كلام غير مسلم، لأن البدعة لم تنحصر في الحرام والمكروه، بل قد تكون أيضا: مباحة ومندوبة وواجبة.
قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات:
البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله علبه وسلم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد:
البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة.
قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإذا دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة.
وذكر لكل قسم من هذه الخمسة أمثلة إلى أن قال:
وللبدع المندوبة أمثلة: منها: إحداث الربط والمدارس، وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول، ومنها: التراويح، والكلام في دقائق التصوف، وفي الجدل، ومنها: جمع المحافل للاستدلال في المسائل إن قصد بذلك وجه الله تعالى.
وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي قال:
المحدثات من الأمور ضربان:
أولهما: ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا، فهذه البدعة الضلالة.
والثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة.
وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: (نعمت البدعة هذه) يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.
هذا آخر كلام الشافعي.
فعرف بذلك منع قول الشيخ تاج الدين: ولا جائز أن يكون مباحا... إلى قوله: وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة إلى آخره؛ لأن هذا القسم مما أحدث، وليس فيه مخالفة لكتاب ولا سنة ولا أثر ولا إجماع، فهي غير مذمومة كما في عبارة الشافعي، وهو من الإحسان الذي لم يعهد في العصر الأول فإن إطعام الطعام الخالي عن اقتراف الآثام إحسان فهو من البدع المندوبة كما في عبارة ابن عبد السلام.
وقوله: والثاني ...إلى آخره، هو كلام صحيح في نفسه غير أن التحريم فيه إنما جاء من قبل هذه الأشياء المحرمة التي ضمت إليه، لا من حيث الاجتماع لإظهار شعار المولد، بل لو وقع مثل هذه الأمور في الاجتماع لصلاة الجمعة مثلا لكانت قبيحة شنيعة، ولا يلزم من ذلك ذم أصل الاجتماع لصلاة الجمعة كما هو واضح، وقد رأينا بعض هذه الأمور يقع في ليالي من رمضان عند اجتماع الناس لصلاة التراويح، فهل يتصور ذم الاجتماع لأجل هذه الأمور التي قرنت بها، كلا، بل نقول: أصل الاجتماع لصلاة التراويح سنة وقربة وما ضم إليها من هذه الأمور قبيح شنيع، وكذلك نقول: أصل الاجتماع لإظهار شعار المولد مندوب وقربة وما ضم إليه من هذه الأمور مذموم وممنوع.
وقوله: مع أن الشهر الذي ولد فيه ... إلى آخره جوابه أن يقال:
أولاً: إن ولادته صلى الله عليه وسلم أعظم النعم علينا، ووفاته أعظم المصائب لنا، والشريعة حثت على إظهار شكر النعم، والصبر والسلوان والكتم عند المصائب، وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة، وهي إظهار شكر وفرح بالمولود، ولم يأمر عند الموت بذبح ولا غيره، بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع، فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم دون إظهار الحزن فيه بوفاته.
وقد قال ابن رجب في كتاب اللطائف في ذم الرافضة حيث اتخذوا يوم عاشوراء مأتما لأجل قتل الحسين: لم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما فكيف ممن هو دونهم.
وقد تكلم الإمام أبو عبد الله ابن الحاج في كتابه المدخل على عمل المولد فأتقن الكلام فيه جدا، وحاصله: مدح ما كان فيه من إظهار شعار وشكر، وذم ما احتوى عليه من محرمات ومنكرات.
وأنا أسوق كلامه فصلا فصلا قال:
ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات وإظهار الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد، وقد احتوى ذلك على بدع ومحرمات جملة، فمن ذلك استعمال المغاني ومعهم آلات الطرب من الطار المصرصر والشبابة وغير ذلك مما جعلوه آلة للسماع، ومضوا في ذلك على العوائد الذميمة في كونهم يشغلون أكثر الأزمنة التي فضلها الله تعالى وعظمها ببدع ومحرمات، ولا شك أن السماع في غير هذه الليلة فيه ما فيه، فكيف به إذا انضم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم الذي فضله الله تعالى وفضلنا فيه بهذا النبي الكريم، فآلة الطرب والسماع أي نسبة بينها وبين هذا الشهر الكريم الذي من الله علينا فيه بسيد الأولين والآخرين، وكان يجب أن يزاد فيه من العبادة والخير شكرا للمولى على ما أولانا به من هذه النعم العظيمة، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد فيه على غيره من الشهور شيئا من العبادات، وما ذاك إلا لرحمته صلى الله عليه وسلم لأمته ورفقه بهم، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل خشية أن يفرض على أمته رحمة منه بهم، لكن أشار عليه السلام إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين: (ذاك يوم ولدت فيه)، فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي ولد فيه فينبغي أن نحترمه حق الاحترام ونفضله بما فضل الله به الأشهر الفاضلة وهذا منها لقوله عليه السلام (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي)، وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خصها الله به من العبادات التي تفعل فيها لما قد علم أن الأمكنة والأزمنة لا تشرف لذاتها وإنما يحصل لها التشريف بما خصت به من المعاني، فانظر إلى ما خص الله به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضل عظيم لأنه صلى الله عليه وسلم ولد فيه، فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يكرم ويعظم ويحترم الاحترام اللائق به اتباعا له صلى الله عليه وسلم في كونه كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات، ألا ترى إلى قول ابن عباس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان) فنمتثل تعظيم الأوقات الفاضلة بما امتثله على قدر استطاعتنا.
فإن قال قائل: قد التزم عليه الصلاة والسلام في الأوقات الفاضلة ما التزمه مما قد علم، ولم يلتزم في هذا الشهر ما التزمه في غيره، فالجواب أن ذلك لما علم من عادته الكريمة أنه يريد التخفيف عن أمته، سيما فيما كان يخصه، ألا ترى إلى أنه عليه السلام حرم المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة، ومع ذلك لم يشرع في قتل صيده ولا شجره الجزاء تخفيفا على أمته ورحمة بهم، فكان ينظر إلى ما هو من جهته وإن كان فاضلا في نفسه فيتركه للتخفيف عنهم، فعلى هذا تعظيم هذا الشهر الشريف إنما يكون بزيادة الأعمال الزاكيات فيه والصدقات إلى غير ذلك من القربات، فمن عجز عن ذلك فأقل أحواله أن يجتنب ما يحرم عليه ويسكن له تعظيما لهذا الشهر الشريف، وإن كان ذلك مطلوبا في غيره إلا أنه في هذا الشهر أكثر احتراما كما يتأكد في شهر رمضان وفي الأشهر الحرم، فيترك الحدث في الدين ويجتنب مواضع البدع وما لا ينبغي.
ارتكب بعضهم في هذا الزمن ضد هذا المعنى، وهو أنه إذا دخل هذا الشهر العظيم تسارعوا فيه إلى اللهو واللعب بالدف والشبابة وغيرهما، ويا ليتهم عملوا المغاني ليس إلا، بل يزعم بعضهم أنه يتأدب فيبدأ المولد بقراءة الكتاب العزيز، وينظرون إلى من هو أكثر معرفة بالتهوك والطرق المبهجة لطرب النفوس، وهذا فيه وجوه من المفاسد، ثم إنهم لم يقتصروا على ما ذكر بل ضم بعضهم إلى ذلك الأمر الخطر، وهو أن يكون المغني شابا لطيف الصورة حسن الصوت والكسوة والهيئة، فينشد التغزل ويتكسر في صوته وحركاته، فيفتن بعض من معه من الرجال والنساء، فتقع الفتنة في الفريقين ويثور من المفاسد ما لا يحصى، وقد يؤول ذلك في الغالب إلى فساد حال الزوج وحال الزوجة ويحصل الفراق والنكد العاجل وتشتت أمرهم بعد جمعهم.
وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع، فإن خلا منه وعمل طعاما فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، لأن ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضين، واتباع السلف أولى، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن تبع فيسعنا ما وسعهم. انتهى.
وحاصل ما ذكره: أنه لم يذم المولد، بل ذم ما يحتوي عليه من المحرمات والمنكرات، وأول كلامه صريح في أنه ينبغي أن يخص هذا الشهر بزيادة فعل البر وكثرة الخيرات والصدقات وغير ذلك من وجوه القربات، وهذا هو عمل المولد الذي استحسناه، فإنه ليس فيه شيء سوى قراءة القرآن وإطعام الطعام وذلك خير وبر وقربة.
وأما قوله آخرًا: إنه بدعة، فإما أن يكون مناقضاً لما تقدم أو يحمل على أنه بدعة حسنة كما تقدم تقريره في صدر الكتاب، أو يحمل على أن فعل ذلك خير والبدعة منه نية المولد، كما أشار إليه بقوله: فهو بدعة بنفس نيته فقط، وبقوله: ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد.
فظاهر هذا الكلام أنه كره أن ينوي به المولد فقط، ولم يكره عمل الطعام ودعاء الإخوان إليه، وهذا إذا حقق النظر لا يجتمع مع أول كلامه، لأنه حث فيه على زيادة فعل البر وما ذكر معه على وجه الشكر لله تعالى إذا أوجد في هذا الشهر الشريف سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى نية المولد فكيف يذم هذا القدر مع الحث عليه أولاً.
وأما مجرد فعل البر وما ذكر معه من غير نية أصلاً فإنه لا يكاد يتصور، ولو تصور لم يكن عبادة، ولا ثواب فيه إذ لا عمل إلا بنية، ولا نية هنا إلا الشكر لله تعالى على ولادة هذا النبي الكريم في هذا الشهر الشريف، وهذا معنى نية المولد فهي نية مستحسنة بلا شك فتأمل.
ثم قال ابن الحاج: ومنهم من يفعل المولد لا لمجرد التعظيم، ولكن له فضة عند الناس متفرقة كان قد أعطاها في بعض الأفراح أو المواسم، ويريد أن يستردها ويستحي أن يطلبها بذاته، فيعمل المولد حتى يكون ذلك سببا لأخذ ما اجتمع له عند الناس، وهذا فيه وجوه من المفاسد منها: أنه يتصف بصفة النفاق، وهو أن يظهر خلاف ما يبطن، إذ ظاهر حاله أنه عمل المولد يبتغي به الدار الآخرة، وباطنه أنه يجمع به فضة، ومنهم من يعمل المولد لأجل جمع الدراهم أو طلب ثناء الناس عليه ومساعدتهم له، وهذا أيضا فيه من المفاسد ما لا يخفى. انتهى.
وهذا أيضا من نمط ما تقدم ذكره، وهو أن الذم فيه إنما حصل من عدم النية الصالحة، لا من أصل عمل المولد.
وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل ابن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه:
أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، وإلا فلا.
قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم؟ فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى أي يوم من السنة، وفيه ما فيه.
فهذا ما يتعلق بأصل عمله.
وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة.
وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحاً بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به، وما كان حراما أو مكروهاً فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى. انتهى.
قلت: وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة، مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات.
ثم رأيت إمام القراء الحافظ شمس الدين ابن الجزري قال في كتابه المسمى (عرف التعريف بالمولد الشريف) ما نصه:
قد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين، وأمص من بين أصبعي ماء بقدر هذا- وأشار لرأس أصبعه، وأن ذلك بإعتاقي لثويبة عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له.
فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى اله عليه وسلم به فما حال المسلم الموحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يسر بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم، لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنات النعيم.
وقال الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي في كتابه المسمى (مورد الصادي في مولد الهادي):
قد صح أن أبا لهب يخفف عنه عذاب النار في مثل يوم الاثنين لإعتاقه ثويبة سرورا بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أنشد: *
إذا كان هـذا كافرا جـاء ذمـه
وتبت يـداه في الجحـيم مخـلدا
أتى أنـه في يـوم الاثنين دائـما
يخفف عنه للسـرور بأحــمدا
فما الظن بالعبد الذي طول عمره
بأحمد مسرورا ومات موحـــدا
وقال الكمال الأدفوي في (الطالع السعيد):
حكى لنا صاحبنا العدل ناصر الدين محمود ابن العماد، أن أبا الطيب محمد ابن إبراهيم السبتي المالكي نزيل قوص أحد العلماء العاملين كان يجوز بالمكتب في اليوم الذي فيه ولد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا فقيه، هذا يوم سرور، اصرف الصبيان، فيصرفنا.
وهذا منه دليل على تقريره وعدم إنكاره، وهذا الرجل كان فقيهاً مالكياً متفنناً في العلوم متورعاً، أخذ عنه أبو حيان وغيره، ومات سنة خمس وتسعين وستمائة.
(فائدة) قال ابن الحاج:
فإن قيل: ما الحكمة في كونه عليه الصلاة والسلام خص مولده الكريم بشهر ربيع الأول ويوم الاثنين، ولم يكن في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وفيه ليلة القدر ولا في الأشهر الحرم ولا في ليلة النصف من شعبان ولا في يوم الجمعة وليلتها.
فالجواب من أربعة أوجه:
الأول: ما ورد في الحديث من أن الله خلق الشجر يوم الإثنين، وفي ذلك تنبيه عظيم، وهو أن خلق الأقوات والأرزاق والفواكه والخيرات التي يمتد به بنو آدم ويحيون وتطيب بها نفوسهم.
الثاني: أن في لفظه ربيع إشارة وتفاؤلاً حسناً بالنسبة إلى اشتقاقه، وقد قال أبو عبد الرحمن الصقلي: لكل إنسان من اسمه نصيب.
الثالث: أن فصل الربيع أعدل الفصول وأحسنها، وشريعته أعدل الشرائع وأسمحها.
الرابع: أن الحكيم سبحانه أراد أن يشرف به الزمان الذي ولد فيه، فلو ولد في الأوقات المتقدم ذكرها لكان قد يتوهم أنه يتشرف بها.
بينما نجد أن الرأى الآخر كان أكثر تحديدا وإن أجاز بعض ما لم يجزه القاصرون على العيدين، فلم ينكر مناسبات النصر والميلاد والاحتفال بها فيما يخص أعياد الأمة؛ استشهادا بما استشهد به أصحاب الرأى الأول فى شأن أهل المدينة حين وجدهم الرسول يحتفلون بيومين ورثوا اتخاذهما عيدًا ولكنهم (أى أصحاب الرأى الأخير) لم يروا فيه من رسول الله إنكارا لاحتفالهم به بحسب فهمهم لهذه الواقعة ..
وفى فتوة لدار الإفتاء المصرية جاء .." الأعياد سُنَّةٌ فِطْرِيَّة جُبِلَ الناس على اتخاذها، فكانوا منذ القدم يخصِّصُون أيامًا للاحتفال والاجتماع وإظهار الفرح؛ لإحياء ذكرى مُناسَباتٍ حصلت في مثل تلك الأيام، كأيام النصر وأيام الميلاد، وكان لِكُلِّ أمة أيامٌ معلومةٌ تُظهِر فيها زينتَها وتعلن سرورها وتُسرِّي عن نفسها ما يُصيبها من رَهَق الحياة وعَنَتِها، وعلى هذه السُّنَّة وَجَد النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الأنصارَ في المدينة بعد هجرته إليها يلعبون في يومين، وَرِثُوا اتِّخاذَهُما عِيدًا عن الجاهليَّة، فلم يُنكِرْ أصْلَ الفكرة، وأباح اتخاذ العيد؛ تحصيلا لمزاياه القومية والاجتماعية والدينية، ولكنه استبدل بيومي الجاهلية يومين آخرين مرتبطين بشعيرتين من أعظم شعائر الإسلام، وهما يوما الفطر والأضحى...
والملاحظ فى هذه الفتوة التى تستند إلى الكتاب والسنة - وهما نفس ما استند إليه الرأى الأول - أنها تستند إلى واقعة أهل المدينة وهى نفسها التى اعتمد عليها الرأى الأول فى عدم الإجازة .
وفى نص الفتوة الثانية :
اطلعنا على الطلب المقيد برقم 2335 لسنة 2005م المتضمن: نقوم بالاحتفال بالمناسبات الدينية المختلفة، مثل الاحتفال بليلة القدر، والإسراء والمعراج، والمولد النبوي الشريف... إلخ، وذلك باجتماع نخبة من المشايخ والعلماء لإلقاء بعض المحاضرات الدينية لهذه المناسبات، مع إقامة بعض المسابقات والابتهالات الدينية، مع الاستعانة بسماعات خارج المسجد وداخله، وعمل زينات خارج المسجد بالأنوار، وأحيانا نقوم بتصوير الحفلة بالفيديو مع عمل جلسة خاصة للسادة العلماء عبارة عن منضدة وكراسيَّ للجلوس في مواجهة الحاضرين داخل المسجد، مع توزيع بعض المشروبات والحلويات، وتكريم حفظة ومحفظي القرآن الكريم، وعمال المساجد المجتهدين. فما رأي الدين في الاحتفال بهذه الصورة؟
الجواب:
الاحتفال في لغة العرب: من حَفَلَ اللبنُ في الضَّرع يَحفِل حَفلًا وحُفُولًا، وتَحَفَّل واحتَفَلَ: اجتمع، وحَفَل القومُ من باب ضرب، واحتَفَلوا: اجتمعوا. وعنده حَفلٌ من الناس: أي جَمع. والمراد من الاحتفال بالمناسبات هو تجمع الناس بخصوصها.
والمناسبات إما أن تكون دينية أو دنيوية، والدينية مثل الاحتفال بالعيدين، والإسراء والمعراج، والنصف من شعبان، والمولد النبوي الشريف، وموالد آل البيت والأولياء الصالحين. والدنيوية مثل الاحتفال بيوم الميلاد، والاحتفال بيوم الأم.
والاحتفال بالمناسبات الدينية والدنيوية أمر مرغب فيه ما لم تشتمل على ما يُنهى عنه شرعًا، وأن يكون خاليًا من المحرمات؛ كالاختلاط المحرم وكشف العورات، ونحو ذلك مما لا يجوز شرعًا.
وليس في الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة، ولا صلة لهذا بمسألة البدعة التي يدندن حولها كثير من الناس؛ فإن البدعة المردودة هي ما أُحدث على خلاف الشرع؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) متفق عليه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومفهومه: أن من أَحدث فيه ما هو منه فهو مقبول غير مردود، وقد أقر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- العرب على احتفالاتهم بذكرياتهم الوطنية وانتصاراتهم القومية التي كانوا يَتَغَنَّوْنَ فيها بمآثر قبائلهم وأيام انتصاراتهم، كما في حديث الصحيحين عن عائشة- رضي الله عنها- (أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان بغناء يوم بُعاث)، وجاء في السنة (أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- زار قبر أمه السيدة آمنة في أَلْفَيْ مُقَنَّع، فما رُؤِيَ أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ). رواه الحاكم وصححه، وأصله في مسلم.
الخاتمة
من المعروف في الفقه الإسلامي أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص بتحريمها أو كراهيتها. وليس في الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة يحتفل بها، ولا صلة بين الاحتفاء بهذه المناسبة وبين البدعة ؛ فالبدعة المردودة هي ما أُحدث على خلاف الشرع، لقول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، أي أن من أحدث فيه ما هو منه فهو مقبول غير مردود.
وقد أقر النبي العرب على احتفالاتهم بذكرياتهم وأيام انتصاراتهم في الجاهلية، وتغنيهم في مناسباتها بمآثر قبائلهم. ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان بغناء يوم بُعاث)، ولم يذكر رواة الحديث أنه أنكر عليها هذا.
ومن المعروف أيضاً أن البدع تكون في العبادات لا العادات. وحتى البدع التي تكون في العبادات ليست كلها من الضلالات، وفقاً لرأي الإمام الشافعي. فقد روى البيهقي بإسناده في (مناقب الشافعي) عن الشافعي أنه قال: "المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أُحدث مما يخالف كتاباً أو سنةً أو أثراً أو إجماعاً فهذه البدعة الضلالة. والثاني: ما أُحدث من الخير لا خلافَ فيه لواحدٍ من هذا، وهذه محدثةٌ غير مذمومة. وقد قال عمر (رضي الله عنه) في قيام شهر رمضان (يعني صلاة التراويح): نعمت البدعةُ هذه، يعني أنها محدثةٌ لم تكن، وإذا كانت فليس فيها ردٌّ لما مضى".
فلو أخذنا الاحتفال بمولد النبي (صلى الله عليه وسلم) كمثال على المناسبات الإسلامية التي أجازها كثير من أعلام المسلمين، نجد أن الإمام السيوطي، ذهب في كتابه (الحاوي للفتاوي) إلى أن الاحتفال بمناسبة مولد النبي بدعة حسنة لا شيء فيها. يقول في رسالته (حسن المقصد في عمل المولد): "عندي أن أصل عمل المولد، الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن، ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) وما وقع في مولده من الآيات، ثم يُمدُّ لهم سماطٌ يأكلونه، وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها؛ لما فيها من تعظيم قدر النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف".[4]
وبمثل ما قاله السيوطي قال العز بن عبد السلام، فرأى أن ذلك وإن لم يُعهد في عصر النبي (صلى الله عليه وسلم) والرعيل الأول فإنه من البدع المندوبة. يقول: "وهو (أي المولد)، وما يكون فيه من طعام، من الإحسان الذي لم يُعهد في العصر الأول، فإنَّ إطعامَ الطعامِ الخالي من اقتراف الآثام إحسانٌ، فهو من البدع المندوبة".
والقارئ لكتب التراث الإسلامي يستطيع أن يستخلص منها العديد من النصوص التي تبيح الاحتفالات بالمناسبات الدينية وغير الدينية. ومن الذين أفتوا بجواز هذه الاحتفالات علماء معروفون بطول قاماتهم العلمية، من بينهم: ابن حجر العسقلاني، وابن كثير، وتقي الدين السبكي، وأبو شامة المقدسي، وشمس الدين السخاوي، وابن حجر الهيثمي، والشوكاني، والقسطلاني.
ومن الطريف أن ابن تيمية، الذي يرى الكثيرون أنه بلغ الغاية في التعصب، وأن في آرائه شدة زائدة، كان كلامه ليّناً في قضية الاحتفالات، على عكس ما هو متوقع منه. ففي الاحتفال بمولد النبي (صلى الله عليه وسلم)، التي يبدّعها سلفيو اليوم، نراه في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) يؤكد على أن الاحتفال بمولده (صلى الله عليه وسلم) فيه أجر عظيم لفاعله إذا حسن قصده. يقول: "وكذلك ما يُحدثه بعض الناس، إما مضاهاةً للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبةً للنبي وتعظيماً له. والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع... واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خيرٌ لاشتماله على أنواع من المشروع، وفيه أيضاً شرٌّ من بدعة وغيرها... فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجرٌ عظيم، لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد".
وعلى العكس مما ذكرناه فى رأى الموسعين، هناك من يتعصب في رأيه في مسألة الاحتفالات إلى درجة تكفير من يدعو إليها أو يشارك فيها أو يؤمن بأنها ليست من جوهر الدين في شيء، ويقسم أنها بدعةٌ محدثةٌ لا تجوز ولا تحل مهما كان الدافع والقصد من ورائها. وحجتهم في ذلك أن البدعة الحسنة غير جائزة، لأنها زيادة في الدين، والزيادة في الدين كالنقص منه، والدين قد اكتمل بنزول القرآن ووفاة النبي (صلى الله عليه وسلم). وفي ضوء ذلك، يرى متشددو السلفية اليوم أن مثل هذه الاحتفالات لا تجوز بأي حال من الأحوال.
ومما سبق يمكننا أن نوجز القول فى الآتى :
- المناسبات إما أن تكون دينية أو دنيوية، فأما الدينية فمثل الاحتفال بالعيدين، والإسراء والمعراج، والنصف من شعبان، والمولد النبوي الشريف، وموالد آل البيت والأولياء الصالحين. والدنيوية مثل الاحتفال بيوم الميلاد، والاحتفال بيوم الأم.
- يرى بعض العلماء أن الاحتفال بالمناسبات الدينية والدنيوية أمر مرغب فيه ما لم تشتمل على ما يُنهى عنه شرعًا، وأن يكون خاليًا من المحرمات؛ كالاختلاط المحرم وكشف العورات، ونحو ذلك مما لا يجوز شرعًا.
- وإنه ليس في الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة، ولا صلة لهذا بمسألة البدعة ؛ فإن البدعة المردودة هي ما أُحدث على خلاف الشرع .
- يرى البعض الآخر بأنها ليست من جوهر الدين في شيء، و أنها بدعةٌ محدثةٌ لا تجوز ولا تحل مهما كان الدافع والقصد من ورائها. وحجتهم في ذلك أن البدعة الحسنة غير جائزة، لأنها زيادة في الدين، والزيادة في الدين كالنقص منه، وفي ضوء ذلك يرون أن مثل هذه الاحتفالات لا تجوز بأي حال من الأحوال.
- اختلفت أقوال العلماء فى إقرار الرسول عليه الصلاة والسلام العرب على احتفالهم بذكرياتهم الوطنية والقومية.
المراجع :
- القرآن الكريم
- صحيح البخارى للإمام محمد بن إسماعيل البخاري– ط بيروت 1994– دار ابن كثير
- حسن المقصد في عمل المولد للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي
- اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيميه
- فتح الباري شرح صحيح البخاري (ط. السلفية) لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني
- فتاوى دار الإفتاء المصرية
الهوامش:
[1] مجم المعانى الجامع .
[2] معجم المعانى الجامع
[3] حسن المقصد في عمل المولد للإمام السيوطى
[4] محمد عبد القادر الفقّي– مقال – العربى الجديد 2015